ثانيا: قال أبو حنيفة: لا تتعين الفاتحة للوجوب، لكن تستحب، وقيل: تجب بمعنى إنه يأثم بتركها، ولو قرأ غيرها أجزأ، ولو ترك القراءة جملة بطلت، واختلف الحنفية في أقل قدر يجزئ بدلا من الفاتحة، فقال أبو حنيفة: تجزئ آية واحدة: وقال أصحابه: ثلاث آيات، أو آية طويلة. وقال الطبري: سبع آيات، عدد أي الفاتحة وحروفها.
واستدلوا بقوله تعالى {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}[المزمل: ٢٠] فقد أمر تعالى بقراءة ما تيسر من القرآن مطلقا، وتقييده بالفاتحة زيادة على مطلق النص، وذلك لا يجوز، لأنه نسخ، فيكون أقل ما ينطلق عليه القرآن فرضا، لكونه مأمورا به والقراءة خارج الصلاة ليست بفرض، فتعين أن يكون في الصلاة، كما استدلوا بحديث في الأوسط "في كل صلاة قراءة ولو بفاتحة الكتاب" وبروايتنا الخامسة لا صلاة إلا بقراءة، والسابعة "في كل صلاة قراءة" والثامنة "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن".
وذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور وداود إلى وجوب قراءة الفاتحة بعينها في الصلاة، ولا يغنى عنها شيء من القرآن.
واستدلوا بأحاديث الباب، بالرواية الأولى "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وبالرواية الثانية": لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن" قالوا: إن المعنى: لا صلاة صحيحة، وقال الحنفية: من المعروف أن الأصوليين اختلفوا في مثل قوله: "لا صلاة" فقيل: هو مجمل، لأنه حقيقة في نفي الذات، والذات واقعة، لا ترتفع، فينصرف لنفي الحكم، وهو متردد بين نفي الكمال، ونفي الصحة وليس أحدهما أولى من الآخر، فأنتم تقولون: لا صلاة صحيحة، ونحن نقول: لا صلاة كاملة، كقوله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وقوله "لا صلاة بحضرة الطعام" وأجاب الجمهور بأن أحدهما هنا أولى من الآخر، لأنه في نفي الصحة أظهر، لأن مثل هذا اللفظ يستعمل عرفا لنفي الفائدة، كقولهم: لا علم إلا ما نفع، ونفي الصحة أظهر في بيان نفي الفائدة وأيضا اللفظ يشعر بالنفي العام، ونفي الصحة أقرب إلى العموم من نفي الكمال لأن الفاسد لا اعتبار له بوجه، وأيضا يمكن أن يقال: لا يمتنع نفي الذات، أي الحقيقة الشرعية، فإن الصلاة في عرف الشرع اسم للصلاة الصحيحة، فإذا فقد شرط صحتها انتفت كما استدلوا بالرواية الثانية، "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام" فهذا يدل على الركنية، قال الحنفية: لا نسلم لأن معناه أن صلاته ناقصة، ونحن نقول بنقصانها، بمعنى أنها لم تبلغ حد الكمال ولهذا قلنا باستحباب قراءة الفاتحة.
كما استدل الجمهور بما رواه الدارقطني عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب" وأجابوا عن الآية التي احتج بها الحنفية بأنها وردت في قيام الليل، لا في قدر القراءة، وعن حديث المسيء صلاته في قوله "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" بأن الفاتحة مما تيسر فيحمل عليها جمعا بين الأدلة، أو يحمل على من لا يحسنها، وعن حديث الأوسط