وكان مشغولاً بحروب الردة، فلما كان عمر وكثر الناس أعاد بناءه على بنيانه صلى الله عليه وسلم باللبن وبالارتفاع وغير جريد السقف المتآكل بجريد جديد وبدل جذوع النخل المتآكلة التي كانت عمدًا بعمد من خشب، وزاد فيه ووسعه طولاً وعرضًا، فكانت الهيئة التي تم عليها بناء عمر مشابهة للهيئة التي بناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تكاد تفترق إلا في السعة.
وفي عهد عثمان كان بناء عمر قد تداعى، جريد النخل نخر، واللبن تهدم بالأمطار والرياح وعوامل الزمن، ورأى عثمان أن الناس قد غيروا بناء بيوتهم جريًا على سنة التطور وسعة الرزق، فجلب لبناء المسجد حجارة منقوشة ليبني بها الحوائط والأعمدة، وعزم على رفع البناء ليتمشى مع ارتفاع البيوت وأحضر له القصة وهي الجص (الجير أو المصيص) ليطلي به الجدران بعد البناء وجلب من الهند خشبًا خاصًا يسمى بالساج للسقف، وعزم على الزيادة في المسجد زيادة كبيرة، من هنا يتضح أن الإنكار لم يتوجه إلى إعادة البناء ولا إلى التوسع وإنما توجه إلى الغلو في الآلات وعدم القصد في البنيان.
٢ - محاولة الحاكم إقناع المحكومين بوجهة نظره مع استمساكه بشرع الله ولم أر فيما قرأت من شفى غلتي في مطابقة رد عثمان للإنكار، وكيف صلح ردًا مقنعًا؟ هم ينكرون الغلو ولا ينكرون البناء وفضله، وعثمان يدلل على فضل البناء، فكيف التقى الرد مع الإنكار؟ .
ولو أننا تعلقنا بالمثلية الواردة في بعض الروايات كالرواية الثانية في حديثنا وأن المماثلة في التشييد والمغالاة لتنافس المسلمون في ذلك بدرجة لا يقول بها أحد من العلماء، ويبدو لي أن عثمان رضي الله عنه أقنع الناس بما لم يذكر في الحديث لعله قال لهم: إن عمر الحجارة يفوق بكثير عمر اللبن، وأن خشب الساج يفوق متانة الجريد، فطول البناء بهما يعادل زيادة تكاليفهما، على أن زيادة التكاليف في تلك الأيام لم تكن ليحسب عند القوم حسابها، فقد امتلأت خزائن الدولة وخزائن الناس بما يستهان معه بهذه النفقات، لعله قال لهم: إن المسجد يجب أن يجد المصلي فيه راحته وأمنه من الحر والبرد ليتفرغ قلبه ومشاعره للتوجه إلى الله تعالى، لعله قال لهم أمثال ذلك مما يقنع فمما لا شك فيه أن القوم اقتنعوا بفعل عثمان، أو اقتنع أكثرهم على الأقل، وإلا ما فعل رضي الله عنه ما فعل.
٣ - وفيه إنكار زخرفة المسجد، فإن الصحابة إذا كانوا قد أنكروا التشييد بالخشب والجص مع فائدتهما للمصلي، فإن الإنكار للزخرفة لا شك فيه لعدم وجود الفائدة، بل للإضرار بالخشوع ولانشغال المصلي بها ومن ذلك الزركشة بالألوان المختلفة وكتابة الآيات والأحاديث على الجدران، وطلاء السقف بالنقوش المستوردة، كل ذلك بدع سيئة، أول من بدعها الوليد بن عبد الملك بن مروان في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم. قال الحافظ ابن حجر: وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفًا من الفتنة، وقال: ورخص في ذلك بعضهم - وهو قول أبي حنيفة - إذا وقع ذلك على سبيل التعظيم للمساجد ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال، وقال ابن المنير: لما شيد الناس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونًا لها عن