الاستهانة وتعقب بأن المنع إن كان للحث على اتباع السلف في ترك الرفاهية فهو كما قال، وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة فلا، لبقاء العلة. اهـ
وقد حاول البدر العيني - وهو حنفي المذهب - أن يوهن من القول الذي نسب إلى أبي حنيفة فقال: مذهب أصحابنا أن ذلك مكروه، وقول بعض أصحابنا: ولا بأس بنقش المسجد معناه تركه أولى، ولا يجوز من مال الوقف، ويغرم الذي يخرجه، سواء كان ناظرًا أو غيره، إما لاشتغال المصلي به، وإما لأنه إخراج المال في غير وجهه، اهـ
والحق أن المنع من الزخرفة للعلتين معًا، شغل المصلي ووضع المال في غير وجهه، وكلام ابن المنير مردود، فعدم الزخرفة لا يؤدي إلى الاستهانة، وما أكثر العمارات الخالية من الزخرفة المشيدة كأحسن تشييد وهي تدعو إلى التقدير والإعجاب والإكبار فلنشيد المساجد بما يغيظ الكفار وبما يريح المصلي ويحفظ عليه خشوعه وخضوعه ويحبب إليه المساجد وطول الإقامة فيها.
لقد كان عمر قادرًا على زخرفة المسجد، ولكنه قال للصانع: أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس، رواه البخاري. وقال ابن عباس لتزخرفن المساجد كما زخرفت اليهود كنائسهم والنصارى بيعهم، قال الخطابي: وإنما زخرفت اليهود والنصارى كنائسها وبيعها حين حرفت الكتب وبدلتها، فضيعوا الدين، وعرجوا على الزخارف والتزيين، وقال محي السنة: إنهم زخرفوا المساجد عندما بدلوا دينهم، وأنتم تصيرون إلى مثل حالهم: وسيصير أمركم إلى المراءاة بالمساجد والمباهاة بتزيينها.
٤ - ويؤخذ من قوله "لله" أو "يبتغي به وجه الله" توقف الجزاء على الإخلاص، أما من يقصد ببناء المسجد المباهاة أو المراءاة فإن عمله محبط، وهل يدخل في ذلك من شهر مسجدًا باسمه، أو كتب اسمه عليه؟ يقول ابن الجوزي: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدًا من الإخلاص.
٥ - ويؤخذ من قوله "من بنى" أن الجزاء المذكور مرتبط بالبناء، أما من جعل بقعة الأرض مسجدًا واكتفى بتحويطها من غير بناء، أو من عمد إلى بناء كان يملكه فوقفه مسجدًا فظاهر اللفظ أنه لا يستحق الجزاء المذكور، وإن استحق جزاء آخر. قال الحافظ ابن حجر: لكن لو نظرنا إلى المعنى والحكمة فنعم يحصل الجزاء نفسه، وهو المتجه، اهـ.
وهل يحصل الأجر نفسه من أمر بالبناء ولم يباشره؟ ومن أنفق على البناء؟ ومن اشترك فيه متطوعًا؟ ومن عمل فيه بأجر؟ ظاهر كلام العلماء أن الله يمنح هذا الأجر بواسع فضله لكل هؤلاء، فقد روى أصحاب السنن وابن خزيمة والحاكم من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة. صانعه المحتسب في صنعته [وهو أعم من أن يكون متطوعًا أو بأجرة مادام يقصد بذلك إعانة المجاهد] والرامي به، والممد به".