إطلاقه، فليس التفل في درجة النخاعة، وليس الأثر هنا كالأثر هناك، فالأولى أن يختلف الحكم باختلاف آثاره، أحيانًا للتنزيه وأحيانًا للحرمة. والله أعلم.
ثانيًا: وما قيل في البصاق خارج المسجد وخارج الصلاة يقال في البصاق داخل المسجد في غير صلاة، وفي غير جدار القبلة، ويزيد الإثم بحرمة المسجد والرواية السادسة والسابعة والثامنة ظاهرة في إنكار هذا الفعل واعتباره خطيئة وسيئة، وإذا كانت الروايتان السادسة والسابعة حكمتا بذلك على التفل والبصاق فإن الخطيئة في المخاط والنخامة والنخاعة أشد وأعظم. وقد أثار العلماء جدلاً حول هاتين الروايتين، وهل التفل في المسجد في حد ذاته خطيئة؟ أو هو خطيئة إذا لم تدفن؟ على معنى: هل تكتب سيئة ثم تمحى هذه السيئة بالدفن، مصداقًا لقوله تعالى:{إن الحسنات يذهبن السيئات}[هود: ١١٤]؟ أو إذا دفنت فلا كتابة ولا محو، وإذا لم تدفن كتبت سيئة؟ المآل واحد وهو أنه لا إثم إذا دفنت، والإثم ثابت إذا لم تدفن، ولكن الجدل حول الكتابة وعدمها في حالة الدفن، وللفائدة نسوق ما قيل في ذلك. قال الحافظ ابن حجر في الفتى: قال القاضي عياض: إنما يكون خطيئة إذا لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فلا. ورد النووي فقال: هو خلاف صريح الحديث.
قال الحافظ قلت: وحاصل النزاع أن هنا عمومين تعارضًا، وهما قوله "البزاق في المسجد خطيئة" وقوله "وليبصق عن يساره أو تحت قدمه" فالنووي يجعل الأول عامًا، ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد: والقاضي بخلافه، يجعل الثاني عامًا، ويخص الأول بما لم يرد دفنها، وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي في "التنقيب" والقرطبي في "المفهم" وغيرهما، ويشهد لهم ما رواه أحمد بإسناد حسن من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا قال "من تنخم في المسجد فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه"، وأوضح منه في المقصود ما رواه أحمد أيضًا والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعًا قال" من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة وإن دفنه فحسنة" فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعًا قال "وجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن". قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة لمجرد إيقاعها في المسجد، بل به وبتركها غير مدفونه. اهـ وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح أنه تنخم في المسجد ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار، ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: الحمد لله الذي لم يكتب علي خطيئة الليلة. فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها لا بمن دفنها، وعلة النهي ترشد إليه، وهي تأذي المؤمن بها، ومما يدل على أن عمومه مخصوص جواز ذلك في الثوب ولو كان في المسجد بلا خلاف. اهـ
وليس غريبًا على القاضي عياض والقرطبي هذا الاتجاه المالكي، فقد نقل عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه قال: لا بأس بالبصق خارج الصلاة، ولكن ميل الحافظ ابن حجر لهذا الرأي يحتاج إلى وقيفة. وما ذكره من أنه يشهد لهم ما روي عن سعد بن أبي وقاص لا يشهد لهم، فإنه أمر بتغييب النخامة، وهو يصلح أن يكون لرفع ما كتب من سيئة، وأن يكون لعدم كتابتها، وحديث أبي أمامة فإن المراد منه أنه إذا لم يدفنها بقيت سيئة فلم تمح. نعم كان يصلح دليلاً لو أنه قال: من تنخع في