وبهذا القول ذهب جماعة من العلماء، والجمهور على خلافه، وتأولوا قول عائشة، ولم يلتفتوا إلى تفسير الضحاك، إذ لا يثبت به حكم، لأنه خال عن صفات الحديث الصحيح.
وقال الأصيلي: أول ما فرضت الصلاة أربعًا على هيئتها اليوم، وأنكر قول من قال: فرضت ركعتين، وقال: لا يقبل في هذا خبر الآحاد، وأنكر حديث عائشة.
ولسنا مع الأصيلي في رد حديث عائشة لأن الحديث صحيح مروي في الصحيحين وطرقه عن عائشة كثيرة ومشهورة، وإسناد أكثرها ليس فيه مقال.
لكن لما كان ظاهره يتعارض مع قوله تعالى:{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}[النساء: ١٠١] لأنه دال على أن الأصل الإتمام، إذا القصر معناه التنقيص، فهي صريحة في أنها كانت في الأصل زائدة عليه. ولما كان ظاهره يتعارض مع ما لوحظ في أول فرض الصلاة ليلة المعراج من قصد التخفيف على الأمة، إذ الانتقال من الاثنين إلى الأربع فيه تشديد، ولما كان ظاهره يتعارض مع عملها، إذ كانت تتم في السفر، وراوي الحديث إذا خالف عمله روايته لا يجب العمل بروايته أو تؤول.
لما كان الأمر كذلك كان من الأولى تأويل حديث عائشة، وخير تأويل له ما قيل فيه: إن المراد بقولها "فرضت" أي قدرت. والله أعلم.
ثانياً: وكان من السهل عدم الاكتراث بهذا الخلاف لولا أنه استدل به على أن القصر في السفر فريضة وواجب، لأنه الفرض الذي لم تتغير فرضيته، فلا يجوز خلافه، ولا تجوز الزيادة عليه. ألا ترى أن المصلي في الحضر لا يجوز له أن يزيد في صلاة عن عدد ركعاتها، ولو زاد عامداً لفسدت صلاته: فكذا المسافر لا يجوز له أن يصلي في السفر أربعاً، لأن فرضه في السفر ركعتان، وممن ذهب إلى هذا عمر بن عبد العزيز -إن صح عنه- وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقول بعض أصحاب مالك، وهو مروي عن مالك في المشهور عنه، واستدلوا بعد حديث عائشة بما رواه النسائي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب "صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم"، وبروايتنا الخامسة عن ابن عباس قال:"فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين".
وبأن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل أبي بكر وعمر في أنهم لم يزيدوا في السفر على ركعتين كما هو صريح روايات الباب دليل على أن الإتمام غير وارد.
وقال الشافعي ومالك في رواية وكثير من العلماء: يجوز القصر والإتمام والقصر أفضل خروجاً من خلاف من أوجبه، وعن أحمد أن المصلي المسافر بالخيار والقصر أفضل.
واستدلوا بأدلة أهمها:
١ - أن رفع الجناح في الآية الكريمة دليل الجواز، لأن رفع الجناح يدل على الإباحة. قال الشافعي: ولا يستعمل "لا جناح" إلا في المباح، لقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا