فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنها عليهما على السواء، وقال مالك: إنما هي على أهل البوادي، لأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق، ومواضع النزول، وما يشترى من المأكل في الأسواق. اهـ.
والذي تستريح إليه النفس في مواضع الخلاف الثلاثة أن الأمر يختلف باختلاف حال الضيف، وباختلاف حال المنزول عليه، وباختلاف ظروف الضيافة.
ففي الموضع الأول قد يكون الضيف فقير الحال، والمنزول عليه ميسورها، فيكون فيما يقدم للضيف إتحاف وإكرام له، وإن كان على عادة أهل البيت أو أقل من عادتهم.
وقد يكون العكس فيحسن التكلف، وقد يكون الضيف من الأصدقاء الذين يحبون البساطة، ويكرهون التكلف، ليشعروا برفع الحرج، فيحسن تقديم ما حضر.
لكن طلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن المقام وحسن التوديع مطلوب في جميع الأحوال.
وفي الموضع الثاني: قد يكون الضيف مضطرا فتكون الضيافة واجبة بقدر الضرورة وإلا فهي من مكارم الأخلاق.
وفي الموضع الثالث: قد يكون الضيف النازل على أهل الحضر لا يملك ما يشتري به قوته، ولا ما ينزل به في الفنادق، وقد يكون الضيف النازل على أهل البادية يحمل معه زادا يكفيه، وبيتا يقيمه ويرسيه، في مثل هاتين الصورتين تكون الضيافة مشروعة على أهل الحضر، دون أهل البادية. فإطلاق الخلاف في المواضع الثلاثة لا يستقيم، وللشرع أهدافه وللتشريع حكمته، والمراد تحقيق حكمة التشريع من التواد والألفة والمواساة.
ولا يفوتنا - وقد بسطنا حق الضيف والواجب له- أن نبين الواجب عليه، فعلى الضيف أن يكون خفيف الظل، خفيف السؤال، لطيف الطلب، محافظا على آداب الضيافة مراعيا حرمة المنزل الذي يضيفه.
فلا يحل له أن يطيل الإقامة حتى يحرج صاحب البيت ويوقعه في الضيق والإثم، فقد جعل صلى الله عليه وسلم ما يقدم للضيف بعد الثلاث في حكم الصدقة، وأطلق عليه لفظ الصدقة تنفيرا، لأن كثيرا من الناس خصوصا الأغنياء يتأففون غالبا من أكل الصدقة.
ولا يتأفف مما يقدم له مهما قل، فالله سبحانه وتعالى يقول: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة: ٩١] وروى أحمد والحاكم عن سلمان قوله: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكلف للضيف وساق قصته مع ضيفه، وفيها أن ضيفه طمع في الإتحاف والزيادة، فرهن سلمان مطهرته واشترى له ما يتحفه به، فلما أكل الضيف، قال: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا، فقال له سلمان: لو قنعت ما كانت مطهرتي مرهونة.
وحكى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: صدق سلمان.