وهذه الاحتمالات التي ساقها النووي جوابا عن الإشكال لا تتفق وما رواه مسلم في باب العيدين، فقد روي عن أبي سعيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر، فيبدأ بالصلاة، فإذا صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس، وهم جلوس في مصلاهم، فإن كانت له حاجة ببعث ذكره للناس، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها وكان يقول: تصدقوا. تصدقوا. تصدقوا. وكان أكثر من يتصدق النساء. ثم ينصرف، فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم، فخرجت مخاصرا مروان [أي يده في يده] حتى أتينا المصلى، فإذا كثير بن الصامت قد بنى منبرا من طين ولبن، فإذا مروان ينازعني يده، كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجره نحو الصلاة، فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا. يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم. قلت: كلا. والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم.
ثلاث مرار ثم انصرف".
فهذا الحديث يبعد تأخر أبي سعيد في الإنكار عن الرجل، ويبعد أن يكون قد سكت خوفا على نفسه، في الوقت الذي لم يخف فيه الرجل أو خاف وخاطر، بل هذا الحديث يثبت أن أبا سعيد أنكر المنكر بيده ثم بلسانه بصورة أشد من صورة إنكار الرجل، والجمع بين الحديثين سهل دون حاجة إلى هذه الاحتمالات، فأبو سعيد حاول منع مروان بيده، كما أنكر بلسانه، فلما صعد مروان المنبر أنكر الرجل فأيده أبو سعيد، ولا إشكال، ولا حاجة إلى القول بأنهما قضيتان.
وقد أفاد الكتاب والسنة وإجماع الأمة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب فالقرآن يقول:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}[آل عمران: ١٠٤].
فهذه الآية صريحة في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، وهو محل اتفاق بين من يعتد بهم من العلماء، ولا يضر هذا الاتفاق ما ذهب إليه الشيخ أبو جعفر من الإمامية من أنه فرض عين، ولا ما ذهب إليه الرافضة من أنه لا يجوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بإذن الإمام المعصوم وهو الإمام الحق عندهم، وهو لم يخرج بعد حسب عقيدتهم. قال الغزالي: وهؤلاء أخس رتبة من أن يكلموا. بل جوابهم أن يقال لهم إذا جاءوا إلى القضاء طالبين لحقوقهم في دمائهم وأموالهم: إن نصرتكم أمر بالمعروف، واستخراج حقوقكم من أيدي من ظلمكم نهي عن المنكر، وطلبكم لحقكم من جملة المعروف، وما هذا زمان النهي عن الظلم وطلب الحقوق، لأن الإمام الحق لم يخرج بعد. اهـ.
ولا يضر في هذا الاتفاق أيضا ما ذهب إليه المعتزلة من أن وجوبه بالعقل لا بالشرع.
لكن هؤلاء المتفقين اختلفوا في الواجب على الكفاية، هل هو واجب على جميع المكلفين، ويسقط عنهم بفعل بعضهم؟ أم هو واجب على البعض؟
ذهب الإمام الرازي وأتباعه إلى أنه واجب على البعض، للاكتفاء بحصوله من البعض ولو وجب على الكل لم يكتف بفعل البعض، إذ يستبعد سقوط الواجب على المكلف بفعل غيره.