للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

-[فقه الحديث]-

وضع البخاري حديث "ما أذن الله لنبي" تحت عنوان: باب من لم يتغن بالقرآن، وقوله تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [العنكبوت: ٥١]. كما أخرج في كتاب الأحكام حديث "من لم يتغن بالقرآن فليس منا". وكأنه يشير بهذا العنوان والآية إلى ترجيح تفسير ابن عيينة للفظ "يتغنى" وأن المراد يستغنى لكنه استغناء خاص ليس ضد الفقر، إنما المراد الاستغناء به عما سواه من أخبار الأمم السابقة ونحوها. وقد روى أبو داود عن عبيد الله بن أبي نهيك قال: لقيني سعد بن أبي وقاص وأنا في السوق فقال: تجار كسبه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من لم يستغن بالقرآن".

وقد روى الطبري وغيره في سبب نزول الآية عن يحيى بن جعدة قال: جاء ناس من المسلمين بكتب وقد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم. فنزل {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} ".

قال ابن التين: يفهم من ترجمة البخاري - أي عنوان الباب - أن المراد بالتغني الاستغناء لكونه أتبعه الآية التي تتضمن الإنكار على من لم يستغن بالقرآن عن غيره، فحمله على الاكتفاء به وعدم الافتقار إلى غيره، وحمله على ضد الفقر من جملة ذلك. اهـ.

قال ابن الجوزي: اختلفوا في معنى قوله: "يتغنى" على أربعة أقوال: أحدها: تحسين الصوت. والثاني: الاستغناء. والثالث: التحزن. والرابع: التشاغل به. وأضاف الحافظ ابن حجر قولاً خامسًا حكاه ابن الأنباري وهو: التلذذ والاستحلاء له كما يستلذ أهل الطرب بالغناء. وأضاف قولاً سادسًا وهو: أن يجعل المسافر هجيراه الغناء. فيكون معنى الحديث: الحث على ملازمة القرآن وأن لا يتعدى إلى غيره.

والشافعي وجمهور العلماء على أن المراد حسن الصوت لقرائن كثيرة. منها: ما قاله الشافعي حين سئل عن تفسير ابن عيينة التغني بالاستغناء فقال: لو أراد الاستغناء لقال: لم يستغن، وإنما أراد تحسين الصوت. ومنها رواية الطبري بلفظ: "ما أذن لنبي في الترنم في القرآن". ولا دخل للترنم في الاستغناء، ومنها روايات الباب وبخاصة روايتنا الثانية: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به". فحسن الصوت والجهر لا علاقة لهما بالاستغناء، فلو كان المراد الاستغناء كما ذهب إليه البخاري لم يكن لذكر حسن الصوت ولا لذكر الجهر به معنى.

قال الحافظ ابن حجر: ظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت ويؤيده قوله: "يجهر به". فإنها إن كانت مرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم فقد قامت الحجة، وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخير من غيره، ولا سيما إذا كان فقيهًا، فقد جزم الحليمي بأنها من قول أبي هريرة. قال الحافظ ابن حجر: والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات

<<  <  ج: ص:  >  >>