للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثم إنهم ينبغي لهم ألا ينكروا أمرا مختلفا فيه، وهو محل للاجتهاد، فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله للضب مثلا، لأن كل مجتهد مصيب عند كثير من المحققين، وعلى الرأي الآخر المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، نعم إن ندبه على جهة النصيحة -إلى الخروج من الخلاف فهو حسن مندوب إليه برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو وقوع على خلاف آخر.

ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، متمثلا لما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلا بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبسا بما ينهى عنه، فإنه يجب على المسلم شيئان:

١ - أن يأمر نفسه وينهاها، أي يمتثل حكم الشرع.

٢ - وأن يأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما فإنه لا يباح له الإخلال بالآخر، وأما قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة: ٤٤] فهو توبيخ على نسيان النفس، لا على الأمر بالبر، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: ٢].

فهو في قوم قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فالتوبيخ مداره في الحقيقة عدم فعلهم، لا قولهم، فالمعنى: لم لا تفعلون؟ وليس في الآيتين ما يمنع الأمر بالمعروف للمخل به.

ولا يتعارض وجوب الأمر بالمعروف مع قوله {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} [المائدة: ١٠٥] إذ الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن تركه مع القدرة عليه ضلال، فالمعنى: إذا استقمتم في أنفسكم وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر لا يضركم ضلال من يضل، فهو قريب من قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [فاطر: ١٨].

وقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدونها رخصة {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} الآية. والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله تعالى منه بعقاب".

هذا. وليس من حق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتجسس للبحث عن المنكرات وتتبعها.

فإن كل من ستر معصيته في داره، وأغلق عليه بابه لا يجوز أن يتجسس عليه، لأن الله نهى عن التجسس، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تسلق دار رجل، فرآه على حالة مكروهة، فأنكر عليه. فقال: يا أمير المؤمنين. إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه. فقال: وما هي؟ فقال: قد قال الله تعالى: {ولا تجسسوا} [الحجرات: ١٢] وقد تجسست، وقال تعالى: {وأتوا البيوت من أبوابها} [البقرة: ١٨٩] وقد تسورت من السطح. وقال {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} [النور: ٢٧] وما سلمت. فتركه عمر، وشرط عليه التوبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>