ويلحق بهذا إحداد الرجل بإطلاق شعره وشعر لحيته والامتناع عن الغسل وعن أنواع معينة من الطعام والشراب، ولكن حرمة هذا الأخير لا تبلغ حرمة ما سبق من أفعال النساء.
وكل هذا واضح من الأدلة، ولا تعارض ولا نزاع فيه. وإنما المشكل في هذا الباب عذاب الميت بصراخ أهله عليه، والأحاديث ظاهرها التعارض، فأحاديث عمر وابن عمر صريحة في عذاب الميت، وأحاديث عائشة رافضة لعذابه ببكاء أهله، قاطعة بأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، والعلماء في هذا الإشكال يخوضون بعضهم يؤيد عمر وابنه، وبعضهم يؤيد عائشة، وبعضهم يحاول الجمع والتوفيق.
فالفريق الأول لا يوافق عائشة من وجوه:
الأول: أن عائشة -رضي الله عنها- نافيه، والنافي الدقيق ينفي العلم ولا ينفي الوقوع، فما كان لها أن تقول في روايتنا الثالثة عشرة:"لا. والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قط: إن الميت يعذب ببكاء أحد". وما كان لها أن تقول في روايتنا الرابعة عشرة:"لا. والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد"؛ لأنها لم تحط بجميع أقواله صلى الله عليه وسلم في جميع أوقات حياته، وكانت الدقة أن تقول: لا أعلم أنه قال كذا، وإنما أعلم أنه قال كذا. حينئذ لا يلزم من عدم علمها بشيء عدم وقوعه. كما لا يلزم من سماعها قولا عدم سماع غيرها لقول آخر.
الثاني: قال القرطبي: إنكار عائشة ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان، أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً، بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح.
الثالث: قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة [روايتنا الرابعة عشرة] أثبتت ما نفته عمرة وعروة عنها [فرواية عمرة السابعة عشرة من رواياتنا تنفي أن يعذب ميت ببكاء الحي، ورواية عروة الخامسة عشرة والسادسة عشرة من رواياتنا تنفي أن يعذب الميت ببكاء أهله عليه، فالروايتان تنفيان عذاب أي ميت ببكاء أهله، ورواية ابن عباس الثالثة عشرة والرابعة عشرة من رواياتنا تثبت زيادة عذاب لبعض الموتى ببكاء أهله إلا أنها خصته بالكافر، لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذاباً ببكاء أهله. فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء؟ ].
الرابع: أن عائشة حين روت حديث عمر، وحديث ابنه لم تعارضهما بحديث مخالف لهما في الحكم، بل بما استشعرته من معارضة القرآن، وهذا فهم منها يقابله فهم سائغ آخر في تفسير الآية كما سيأتي.
والفريق الثاني لا يوافق ابن عمر في أن الميت يعذب بسبب بكاء أهله، فهم يرون أنه لا يعذب أي ميت بسبب بكاء أحد عليه، وإلى هذا جنح بعض الشافعية، وقد رواه أبو يعلى عن أبي هريرة من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال أبو هريرة: "والله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد، فعمدت امرأته سفهاً وجهلاً فبكت عليه، ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة"؟ .