للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهذا الفريق بعضهم يرد الحديث رداً كما فعلت عائشة، وبعضهم يقبله ويؤوله، فيجعل الباء في "ببكاء أهله" للحال، لا للسببية، أي إن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه.

وذلك أن شدة بكائهم غالباً إنما تقع عند دفنه، وفي تلك الحالة يسأل ويبتدئ بالسؤال عذاب القبر، فكأن معنى الحديث: إن الميت يعذب في حالة بكاء أهله عليه، وعلى هذا يكون خاصاً ببعض الموتى. قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى ما فيه من التكلف. اهـ.

وبعضهم يقبله ويؤوله: فيقول: إن معنى "يعذب ببكاء أهله" "أي يعذب بالفعل الذي يذكرونه به، وذلك أن الأفعال التي يعددون بها عليه غالباً تكون من المحرمات المنهي عنها، فهي قبائح في الشرع ومحاسن في زعمهم كقولهم: يا سبع الجبال، يا مخيف الرجال، يا كاتم الأنفاس، يا شديد البأس. ويرون ذلك شجاعة وفخراً. وهي وإن كانت شجاعة لكنها صرفت في غير طاعة، وقد يعددون عليه بالجود الذي أنفقه في المعاصي، فهو يعذب بصنيعه الذي يمدحونه به، أي يعذب بما يبكى عليه به. واختار هذا التأويل ابن حزم وطائفة.

وعلى هذين التأويلين لا يعذب أي ميت بسبب بكاء أهله. كما ذهبت عائشة.

الفريق الثالث: يجمع بين الحديثين، فيقيد كلا منهما بقيد يرفع التعارض بينهما.

وقد اتجهت قيودهم ثلاثة اتجاهات:

١ - اتجاه تقييد العذاب على معنى أنه يعذب بنوع ولا يعذب بنوع، أي المثبت نوع، والمنفي نوع آخر، فالمثبت توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به، كما روي في مسند الإمام أحمد من حديث أبي موسى مرفوعاً: "الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه؟ واناصراه؟ واكاسياه؟ جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسيها؟ " والمنفي عذاب النار.

أو المثبت تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة، والمنفي عذاب الآخرة.

٢ - واتجاه تقييد الزمان والمكان على معنى يعذب في البرزخ ولا يعذب يوم القيامة. حكاه الكرماني وحسنه. قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع في الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: ٢٥] فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب.

٣ - واتجاه تقييد الميت بصفة، على معنى:

(أ) يعذب ببكاء أهله من أهمل نهي أهله عن ذلك قبل موته وهو يعلم أنهم لهم بذلك عادة، ويعلم ما جاء في النهي عن النوح، ولا يعذب من ليس كذلك.

قال ابن المرابط: إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النوح، وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك، ولم يعلمهم بتحريمه، ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه، لا بفعل غيره بمجرده.

<<  <  ج: ص:  >  >>