أصحابه بالنار في الآخرة، وخوفهم من عذابها، وتمثل أنها أمامه فبدت عليه علامات الفزع والرعب، فأعرض وأشاح بوجهه جهة اليمين، كأنه يتقيها، واستعاذ بالله منها ومن حرها، ثم رجع بوجهه إلى الوضع الأول، وكأنها مازالت أمامه، فعبس وفزع، وأعرض وأشاح بوجهه جهة الشمال كأنه يتقيها، واستعاذ بالله منها ومن حرها، ثم عاد بوجهه صلى الله عليه وسلم إلى الوضع الأول، وكأنه لم يجد بإعراضه عن مواجهتها منقذاً منها، وقد أوحى الله إليه أن الصدقة تطفئ غضب الرب، وأنها مهما قلت وصغرت -إذا قبلت- سترت صاحبها من النار، وحالت بينه وبين لهبها، بل بينه وبين حرارته، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اتقوا النار بالصدقة ولو كانت الصدقة نصف تمرة.
نعم تمرة أو نصف تمرة ممن لا يجد إلا ذلك تخرج عن طيب نفس، يحتسبها صاحبها عند ربه، يتلقاها الرحمن بيمينه، ويربيها وينميها لصاحبها، فيجدها يوم القيامة في ميزان حسناته كالجبل، وأعظم من الجبل.
لم يتردد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وجد تمرة بالطريق أن يرفعها من الأرض وينفخها من التراب، ثم يناولها صحابياً كان معه، ويخبره أنها رزق ساقه الله إليه، وأنها لو لم يأت هو إليها وإلى مكانها لأتت هي إليه في مكانه مادامت من الرزق الذي كتبه الله له.
ولم تتردد عائشة حين جاءتها امرأة فقيرة ومعها بنتان صبيتان جائعتان، لم تتردد عائشة حين لم تجد في بيتها ما تعطيه للمرأة سوى تمرة واحدة أن تقدم هذه التمرة الوحيدة للمرأة، التي شقت التمرة نصفين، وأعطت كل بنت من بنتيها نصفاً.
وكان الصحابة كذلك لا يتحرجون أن يقدموا تمرة واحدة، فقد أخرج أبو نعيم في "الحلية" عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعثنا في السرية، ما لنا زاد إلا السلف -أي الجراب من التمر- فيقسمه صحابه بيننا قبضة قبضة، حتى يصير إلى تمرة تمرة".
لا يقال: وماذا يفعل النصف بالجائع؟ بل ماذا تفيد التمرة الكاملة عند جائع؟ إن الحديث الذي أخرجه الطبراني يجيب عن ذلك فيقول: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإنها تقيم العوج، وتدفع ميتة السوء، وتقع من الجائع موقعها من الشبعان".
وأوضح منه في ذلك ما أخرجه البيهقي عن جابر رضي الله عنه قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر علينا أبا عبيدة، نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة. قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل". وفي بعض الروايات: "فقلت: وما تغني تمرة؟ قال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت".
إن العطاء مهما قل يقع من نفس الآخذ موقعاً أكبر بكثير جداً من قيمته وإن أسمى ما جاء به الإسلام للبشرية عوامل الترابط والتآلف والتحاب، والعطاء أهم وسيلة تحقق هذا