للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الهدف، ومن هنا نجد الروايات المذكورة تشير إلى ذلك فتقول: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة".

إن الشريعة الإسلامية السمحة عالجت هذه القضية من أطرافها الثلاثة، طرف المعطي، وطرف الآخذ، وطرف المجتمع المشاهد، فطرف المعطي قد عالجته الأحاديث التي ذكرناها، وكانت حافزاً للمؤمن أن يقدم ما عنده من غير حرج ومن غير احتقار لعطيته، والحديث رقم (٥٦) يعالج طرف الآخذ، فيقول: "يا نساء المسلمات. لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة". أي لا تحتقر آخذة عطية معطية، ولو كانت هذه العطية ظلف شاة لا لحم فيه. وقد استجاب الطرفان للنصيحة، فرأينا جابر بن عبد الله ينزل به ضيف -جماعة من الرجال- فيقدم إليهم ما عنده، خبز وخل، ويقول: كلوا. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم الإدام الخل، هلاك بالقوم أن يحقروا ما قدم إليهم، وهلاك بالرجل أن يحتقر ما في بيته يقدمه إلى أصحابه". أخرجه البيهقي في "الشعب".

وأخرج ابن سعد عن أبي هريرة قال: "كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إنه كان ليخرج إلينا العكة -إناء من جلد يحفظ فيه العسل ونحوه- ليس فيها شيء، فيشقها فنلعق ما فيها".

إن القرآن الكريم يثبت هذه النظرية حيث يقول: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً} [الطلاق: ٧].

إن إنفاق الكثير من أهل السعة والغنى لا يعدل في ثوابه أجر القليل ممن قدر عليه رزقه، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: "سبق درهم مائة ألف درهم. فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما، فتصدق به". رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.

ومن هذا المبدأ انطلق الفقراء ينافسون الأغنياء في التصدق والعطاء، من يملك ديناراً يتصدق من ديناره، ومن يملك درهمين ينفق منهما، ومن يملك ثوبين يتصدق بأحدهما، ومن يملك صاعاً من بر يتصدق بنصفه، كما يحدثنا بذلك الحديث رقم (٣٦). بل الذي لا يملك شيئاً من ذلك يذهب فيؤجر نفسه بصاع ليتصدق به أو بنصفه، كما يحدثنا بذلك الحديث رقم (٣٧). بل من كانت عنده شاة أو عنز أو ناقة كان يعيرها للفقير ليلة ليمنحه لبنها في مسائها وصباحها، كما يحدث بذلك الحديث رقم (٣٨)، (٣٩).

وهكذا لم تعد هناك غضاضة على المعطي أن يعطي ما عنده مهما قل، ولم تعد غضاضة على الآخذ أن يأخذ القليل راضياً شاكراً، لكن بعض ضعاف الإيمان أو المنافقين لم يعجبهم هذه الروح الإسلامية السمحة، لأنهم لم يتعودوها في جاهليتهم، فلم يكن الفقير معطاء، وكان عطاء الغني للرياء والسمعة، ولم يألفوا هذا النوع الجديد من البذل والعطاء، لم يذوقوا طعم الإيمان وطعم احتساب الأجر، فكانوا يسخرون ممن يعطي الكثير، ويقولون: ما

<<  <  ج: ص:  >  >>