فأبو حنيفة ومحمد وأتباعهما يقولون: إذا أعطى زكاته لشخص وظنه فقيراً فبان أنه غني سقطت عنه تلك الزكاة، ولا تجب عليه الإعادة. وقال الشافعي وأبو يوسف: لا يجزيه، وعليه الإعادة، لأنه لم يضع الصدقة موضعها، وأخطأ في اجتهاده. قاله العيني.
ربما يحمل أبو حنيفة لفظ الصدقة في الحديث على ما يعم النفل والفريضة وربما يخصصها الشافعي بالنافلة المندوبة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، لهذا يقول الحافظ ابن حجر: ولا دلالة في الحديث على الإجزاء ولا على منعه، من ثم أورد البخاري الترجمة بلفظ الاستفهام، ولم يجزم بالحكم فقال: باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم.
فالذي يحمل الصدقة على المندوبة يقدر جواب "إذا" بقوله: فصدقته مقبولة.
والذي تستريح إليه النفس أن من بذل الجهد، واستفرغ الوسع، ولم يقصر في دراسة الآخذ، فاعتقد بعد الاجتهاد والأخذ بالوسائل والأدلة أنه فقير فأعطاه الزكاة سقطت عنه، ويرجى قبولها، وإن تبين فيما بعد أنه كان غنياً، لا تجب الإعادة وإن استحبت خروجاً من الخلاف. لكن لا يستدل على هذا بالحديث، لأن الرجل -كما يبدو- لم يجتهد أصلاً، ولم يتحر عند العطاء من يعطي، والأغنياء والفقراء معروفون في البلاد عادة، والأول لا يحتاج إلى عناء في تمييزهم وبخاصة ممن يقيم معهم، لكن الرجل كان حريصاً على نفقة السر ولم يكن حريصاً على اختيار المستحق. والله أعلم.
والواضح من آيات مصارف الزكاة عدم التعرض لصلاح المذكورين أو فسقهم، لكن المعلوم من قواعد الشريعة ونصوصها أن الآخذ يدعو للمتصدق فالله تعالى يقول:{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم}[التوبة: ١٠٣] ودعاء الصالح غير دعاء الطالح، وحتى لو لم يدع الآخذ، فإن العطاء يخلق رضا الآخذ على المعطي، ورضا الطائع غير رضا الفاسق، لذا جاء في الحديث:"يا معشر المسلمين. أطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين". فكان الأولى بالمتصدق أن يقصد الصالحين المتقين، لكن إعطاء المسلم الفاسق من الزكاة جائز من حيث المبدأ، ولا خلاف في ذلك، والحديث علل القبول برجاء الاستعفاف. قال الحافظ ابن حجر: فإن قيل: إن الخبر إنما تضمن قصة خاصة، وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية، فمن أين يقع تعميم الحكم؟ فالجواب أن التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب. اهـ.
-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]-
١ - أن الصدقة كانت عندهم في أيامهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير ولهذا تعجبوا من الصدقة على الأصناف الثلاثة.
٢ - وفيه دليل على أن الله يجزي العبد على حسب نيته في الخير، لأن هذا المتصدق لما قصد بصدقته وجه الله قبلت منه، ولم يضر وضعها عند من لا يستحقها.