غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة ... فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقراً
انتهى من فتح الباري للحافظ ابن حجر.
والذي تستريح إليه النفس أن الإسلام لا ينفر من الحرص على المال، وعلى الاستزادة منه وطلبه مهما كثر، كل ما يدعو إليه أن لا يؤدي ذلك إلى طلبه من غير حله، أو إنفاقه في غير حله، أو عدم أداء حقه، والقناعة الإسلامية ليست بالوقوف عن طلب المزيد، ولو لغير حاجة، وإنما هي في الرضا بما عندك مهما كان زائداً، وبالرضا بطلب الجديد في الحدود المشروعة، القناعة الإسلامية في عدم التطلع لما في يد الغير، وعدم السعي في اقتناصه منه، وفي عدم التحسر عليه عند فواته، فمعنى الحديث: ليس كثرة المال مصدر الإحساس بالغنى، فكثير ممن يملكون الذهب والفضة والقصور ينظرون إلى من هم أعلى منهم فيحسون بالفقر، وإنما الغنى الحقيقي الذي يشعر به صاحبه ويسعد به هو الإحساس بأن رزقه كافيه، قل أو كثر، فهو حامد شاكر راض بما حصل. وإن جاهد للمزيد، لا على حساب الدين، بل لحساب الدين، فكلما زاد ماله أنفق في وجوه الخير فزادت حسناته، وكلما سعى في كسب الرزق الحلال كفرت سيئاته، كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
(لا. والله ما أخشى عليكم -أيها الناس- إلا .... )"لا" رد لكلام سابق، مذكور أو مفهوم، كأنه قال مثلاً: لا تجزعوا من الفقر، أو لا تتمنوا الغنى. وفي الرواية الحادية عشر "أخوف ما أخاف عليكم .... " وفي الرواية الثانية عشرة "إن مما أخاف عليكم ... " والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخشى على أمته من أخطار كثيرة، يخشى عليهم الاختلاف، والفتن، والتكالب على الإمارة، وضياع العلم، وكثرة الجهل، فالتنافس على زهرة الحياة الدنيا أحد ما يخشاه، ولا مانع من أن يعد أكثرها خطراً، وأخوف ما يخافه، باعتباره أساس كل المصائب، وإثبات الأعلى والأكبر لا ينافي إثبات أصل الوصف، فلا تعارض بين "أخوف ما أخاف" وبين "إن مما أخاف" والقصر في الرواية العاشرة قصر ادعائي، كأنه صلى الله عليه وسلم لا يخشى إلا هذا، وكأن ما عداه مما يخشى في حكم العدم.
قال الحافظ ابن حجر: وهذه الخشية يحتمل أن يكون سببها علمه أن الدنيا ستفتح عليهم، ويحصل لهم الغنى بالمال، وقد ذكر ذلك في أعلام النبوة، مما أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوعه قبل أن يقع فوقع.
(ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا) فسرت زهرة الدنيا في الرواية الحادية عشرة ببركات الأرض، ورواية البخاري تعكس هذا التفسير وهذا المفسر، ولفظها:"إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض". قيل: وما بركات الأرض؟ قال:"زهرة الدنيا". وزاد في رواية:"وزينتها". وزهرة الدنيا زينتها وبهجتها، مأخوذة من زهر الشجر، والمراد ما فيها من أنواع المتاع والذهب والفضة والمساكن والزروع وغيرها مما يفتخر الناس بحسنه مع قلة البقاء.
(فقال رجل) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، وفي الرواية الحادية عشرة "قالوا" فإسناد القول إلى المجموع مع أن القائل واحد تنزيل لهم منزلة القائلين، لموافقتهم على هذا القول.