والتوسط في الجمع أحسن، ثم ضرب مثلاً لمن ينفعه إكثاره، وهو التشبيه بآكلة الخضر، وهذا التشبيه لمن صرفه في وجوهه الشرعية. اهـ.
والتحقيق أن التمثيل يعطينا ثلاث حالات، لأن الربيع ينبت البقول الحارة التي تضر وتقتل أو تقارب كثرت أو قلت، وهذه الحالة تشبهها حالة جمع المال من غير حله، والكسب غير الطيب، كما ينبت الخضر الذي لا يضر تناوله باعتدال، أو تناوله بكثرة مع التحايل على صرفه، وهذه الحالة تشبهها حالة جمع المال من حله باعتدال، أو الإكثار منه بطريق مشروع مع أداء حقه وإنفاقه في وجوه الخير، الحالة الثالثة بطريق المفهوم وهي حالة الإكثار مع عدم التمكن من التصريف، وهذه تقتل أو تلم كالأولى، وهذه الحالة تشبهها حالة جمع المال ولو من حله، والإكثار منه وجمعه مع عدم أداء حقه.
فالمال وزهرة الدنيا في حالتين من ثلاث، وحتى الثالثة، وهي الثانية في ترتيبنا، محفوفة بالأخطار، فأي خير هو؟ إنه في ذاته خير لا ينتج إلا خيراً، لكنه لا بد له من أعراض في جمعه وفي إنفاقه، وهذه الأعراض شرها ينتج شراً، وخيرها ينتج خيراً، وشرها أكثر من خيرها، فكيف لا يخاف الحريص على أمته، العزيز عليه عنتها، الرءوف الرحيم بها، كيف لا يخاف عليها هذه الشرور في وقت تبتعد فيه عن تعاليم دينه الحنيف؟ .
(فمن يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع) لم تتعرض هذه الرواية للإنفاق، وقد تعرضت له الرواية الحادية عشرة، ولفظها:"فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه فنعم المعونة هو". وكذا الرواية الثانية عشرة، ولفظها:"ونعم صاحب المسلم هو، لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل" أي أدى حق الله فيه.
(ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يشهد عليه حقيقة، بأن ينطقه الله تعالى، ويجوز أن يكون مجازاً عن شهادة الملك الموكل به. اهـ والهدف من هذه الشهادة زيادة الإيلام النفسي بعد العذاب الجسمي، حين يتحول صديق الدنيا عدواً يوم القيامة.
(أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم) الظاهر أنه من قبيل العطاء من الغنائم، لا من الصدقة، كالذي سيأتي في الباب بعده، ولم تعرف أسماؤهم.
(ومن يستعفف يعفه الله .... ) أي من يطلب العفة ويحاولها يعفه الله ويوفقه، ومن يحاول الغنى عما في أيدي الناس يوفقه الله ويغنيه، ومن يحبس آلامه ويدافع عن نفسه الجزع يمنحه الله الصبر والرضا.
(وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم "خير" مرفوع، وهو صحيح، وتقديره: هو خير، كما وقع في رواية البخاري. اهـ.