(الأنصار شعار، والناس دثار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار) هذه العبارة وردت في الرواية الثانية عشرة، والشعار الثوب الذي يلي الجسد، والدثار ما يلبس فوقه؛ وهي استعارة لطيفة لفرط قربهم منه صلى الله عليه وسلم، أراد الأنصار هم البطانة والأصفياء، وألصق الناس بي، وأقرب إلى من غيرهم. وفي المراد من قوله:"ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار". أقوال كثيرة، قال الخطابي: أراد بهذا الكلام تألف الأنصار واستطابة نفوسهم والثناء عليهم في دينهم، حتى رضي أن يكون واحداً منهم لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها، ونسبة الإنسان تقع على وجوه. منها الولادة، والبلادية، والاعتقادية، والصناعية، ولا شك أنه لم يرد الانتقال عن نسب آبائه، لأنه ممتنع قطعاً، وأما الاعتقادي فلا معنى للانتقال فيه، فلم يبق إلا القسمان الأخيران، وكانت المدينة دار الأنصار والهجرة إليها أمراً واجباً، أي لولا أن النسبة الهجرية لا يسعني تركها لانتسبت إلى داركم. قال: ويحتمل أنه لما كانوا أخواله، لكون أم عبد المطلب منهم أراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة لولا مانع الهجرة.
وقال ابن الجوزي: لم يرد صلى الله عليه وسلم تغير نسبه، ولا محو هجرته، وإنما أراد أنه لولا ما سبق من كونه هاجر لانتسب إلى المدينة وإلى نصرة الدين. فالتقدير لولا أن النسبة إلى الهجرة نسبة دينية لا يسع تركها لانتسبت إلى داركم.
وقال القرطبي: معناه لتسميت باسمكم، وانتسبت إليكم كما كانوا ينسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة سبقت، فمنعت من ذلك، وهي أعلى وأشرف، فلا تتبدل بغيرها.
وقيل: لولا التزامي بشروط الهجرة، ومنها ترك الإقامة بمكة فوق ثلاث لاخترت أن أكون من الأنصار. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح.
والذي تستريح إليه النفس أن يقال: إن "لولا" حرف امتناع لوجود، أي امتناع الجواب لوجود الشرط، فيقال هنا: امتنع كوني من الأنصار لثبوت كوني مكياً مهاجراً، ولولا هذا الواقع الذي لا يرتفع لتمنيت أن أكون من الأنصار، وإنما قدرنا التمني والحب والرغبة لأن كونه فعلاً من الأنصار ليس في مقدرته ولا يملكه، إنما يملك التمني والرغبة، ومن هذا القبيل المقولة المشهورة:"لو لم أكن مصرياً لتمنيت أن أكون مصرياً".، فكأنه صلى الله عليه وسلم يطيب خاطرهم بأنهم خير العباد في خير البلاد، ولو فرض أن هناك اختياراً له في الزمن البعيد بين أن يكون مكياً أو أنصارياً لاختار أن يكون أنصارياً لولا ما يحصل عليه من فضل الهجرة وشرفها.
(لو سلك الناس وادياً، وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار) هذا تتميم للكلام السابق، أي إذا كنت في الماضي لم أنتسب إليكم فإني منذ الآن منكم وأعيش بينكم وأفضل البقاء معكم على البقاء مع سواكم. وفي الرواية الثامنة "لو سلك الناس وادياً أو شعباً، وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار". وفي الرواية الثانية عشرة "لو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم". فاختلاف الألفاظ من تصرف الرواة، والشعب بكسر الشين اسم لما انفرج بين جبلين، والوادي المكان المنخفض، وقيل: الذي فيه ماء.