يشعرون بدوي كدوي النحل، كما جاء ذلك في رواية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي هذه الحالة لا يراه صلى الله عليه وسلم بل يثقل عليه الأمر ويشتد، ويأخذه ما يشبه الحمى، ويتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد، فينفصم الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد وعى كل ما قال، وتلك الحالة أشد حالات الوحي وأصعبها.
وأحيانا كان ينزل جبريل ويتراءى للنبي صلى الله عليه وسلم في صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها، فيسد الأفق، ونزوله بهذه الكيفية قد ندر حتى قيل: لم يره صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة إلا مرة أو مرتين.
وأحيانا كان يتمثل جبريل بصورة دحية الكلبي الصحابي المشهور بحسن صورته.
وأحيانا كان يتمثل جبريل بصورة رجل غريب.
والحالة التي معنا من نوع نزوله عليه السلام في صورة رجل غير معروف، وسبب هذا النزول أن الصحابة كانوا قد أكثروا السؤال، واستشعر صلى الله عليه وسلم أن فيهم من يسأل تعنتا، فغضب حتى احمر وجهه، وأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}[المائدة: ١٠١] فانكف الناس عن السؤال، وكانوا يتمنون أن يأتي الرجل من البادية فيسأل فأرسل الله جبريل عليه السلام فسأل ليعلموا، ولا يقال: لم لم يسلم جبريل؟ وكيف تخطى الصحابة حتى وصل إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقد ثبت أنه سلم واستأذن في التخطي والدنو ولكن لم ينقله الرواة في أحاديثنا، فقد جاء في رواية البزار " .... فإنا لجلوس عنده إذ أقبل رجل أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا، كأن ثيابه لم يمسها دنس حتى سلم من طرف البساط وقال: السلام عليك يا محمد، أأدنو؟ قال: ادنه، فما زال يقول: أأدنو؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ادنه، حتى وضع يديه على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم".
والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف جبريل في الحال، أخذا من قوله "ردوا على الرجل" وقيل: يجوز أن يكون قد عرفه في الحال وأخفى ذلك على الحاضرين، لكن هذا القول ضعيف لما جاء في رواية البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم "أتاكم يعلمكم دينكم وما أتى في صورة إلا عرفته فيها إلا هذه" وفي رواية: "فوالذي نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه وما عرفته حتى ولى".
وظاهر رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضح للصحابة أن السائل هو جبريل في نفس المجلس بعد أن حاولوا رده فلم يجدوه، ويعارض هذا ما جاء في رواية عمر بن الخطاب عند أبي داود والترمذي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمر: أتدري من السائل؟ قال له ذلك بعد ثلاث ليال من سؤال جبريل، وجمع بينهما بأن عمر لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحال، بل كان قد قام من المجلس ولم يرجع فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال وأخبر عمر رضي الله عنه بعد ثلاث، فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قاطع بأن عمر لا يعلمه فكيف يسأله "أتدري من السائل"؟ أجيب بأنه فعل ذلك ليشتد اشتياق عمر للجواب لأهميته.