للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقد اختلف العلماء في الجمع بينها، فقيل: يجوز أن يكون المراد: من أفضل الأعمال كذا، أو من خيرها كذا، أو من خيركم من فعل كذا، فحذفت "من" وهي مرادة، كما يقال: فلان أعقل الناس وأفضلهم ويراد أنه من أعقلهم وأفضلهم.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله" ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس، ومن ذلك قولهم: أزهد الناس في العالم جيرانه، وقد يوجد في غيرهم من هو أزهد منهم فيه.

والأولى أن يقال: إن اختلاف جوابه صلى الله عليه وسلم مع اتحاد السؤال أو تشابه الأسئلة إنما كان مراعاة لمقتضى الحال، فقد يراعي حال السائل وما هو أنفع له وأخص به فإن كان السائل ذا نجدة فالجهاد في حقه أفضل، وإن كان له والدان يعتمدان عليه لو خرج للجهاد ضاعا فالبر في حقه أفضل، ومن ذلك ما ورد أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، فقال: ألك والدان؟ قال: نعم. فقال: ففيهما فجاهد، وإن كان السائل امرأة تسأل عن الجهاد لم يكن بالنسبة لها أفضل الأعمال، ففي البخاري عن عائشة "قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور". وقد يراعي حال المخاطبين والسامعين فيعلم كل قوم بما بهم من حاجة إليه، أو بما لم يكملوه بعد من دعائم الإسلام فقد ورد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حجة لمن لم يحج أفضل من أربعين غزوة، وغزوة لمن حج أفضل من أربعين حجة" وقد يراعي ما هو أليق بالزمان، كما لو نزل العدو بأرض المسلمين، وفي وقت الزحف الملجئ والنفير العام، فإن الجهاد حينئذ يجب على الجميع، وإن كان كذلك فالجهاد أولى بالتحريض والتقديم على ما سواه، وكما لو نزلت بالمسلمين ضائقة وفقر وجدب وشدة، فإن إطعام الطعام حينئذ يكون أولى بالتقديم، وبكونه أفضل الأعمال.

فكأن الأفضلية أمر نسبي، فما هو أفضل لي قد يكون غيره أفضل لغيري، بل قد يكون الشيء خير الأشياء لي في وقت، وغيره خيرا منه لي في وقت آخر.

ومرجع هذا الجواب إلى تقييد كل حديث بالحال والمقام، وهذا الجواب يصلح جوابا عن قول القائل: لم خص هذه الأمور بالذكر من بين سائر خصال الإسلام وشعبه، وكذلك عن قول القائل: لم قدم الجهاد -وليس بركن- على الحج وهو ركن؟ ولا يشكل على هذا الجواب ما جاءت به بعض الروايات من التعبير بحرف "ثم" وهي موضوعة للترتيب، فقد تقتضي الظروف والأحوال هذا الترتيب في مثل هذا، على أنهم قالوا إن الترتيب ترتيب في الذكر، من قبيل قوله تعالى: {وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: ١٢ - ١٧] ومعلوم أنه ليس المراد هنا الترتيب في الفعل بين الإطعام والإيمان.

وكقول الشاعر:

قل لمن ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده

وإذا صرفنا النظر عن الظروف ومقتضيات الأحوال فإنه لا خلاف في أن أفضل الأعمال الإيمان

<<  <  ج: ص:  >  >>