واقتضت الآيات الوصية بالوالدين والأمر بطاعتهما ولو كانا كافرين إلا إذا أمرا بالشرك فتجب معصيتهما في ذلك، عملا بقوله تعالى:{وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا}[لقمان: ١٥].
وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: حلفت أم سعد لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه، قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، فأنا أمك وأنا آمرك بهذا فنزلت {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما}[العنكبوت: ٨].
وفي رواية:"قالت أمه: يا سعد لن آكل ولن أشرب حتى أموت، فتعير بي بين العرب، فيقال لك: يا قاتل أمه. فقال سعد: يا أماه. والله لقد علم العرب أنني أبر الناس بأمي، ولكن لو أن لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما رجعت عن ديني".
وقد اختلف العلماء في تقديم حق الأم في البر على الأب، فذهب الجمهور إلى أن للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، أخذا من الحديث الصحيح أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: "يا رسول الله. من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك" ومن الحديث الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب".
قال الجمهور: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع. فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى:{ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}[الأحقاف: ١٥] فسوى بينهما في الوصاية وخص الأم بالأمور الثلاثة.
ونقل بعضهم عن مالك أنهما في البر سواء، أخذا مما روي عنه أنه سأله رجل قال: طلبني أبي فمنعتني أمي؟ قال مالك:"أطع أباك ولا تعص أمك" قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى أن برهما سواء، إذ قال الليث حين سئل عن المسألة بعينها، قال: أطع أمك، فإن لها ثلثي البر، قال الحافظ ابن حجر: والصواب رأي الجمهور.
وعندي أن بعض الأمهات في بعض البلاد متخلفات العقل، قاصرات في التفكير، قد تأمر ابنها بما يضر دينه ودنياه، وتنهاه عما يصلح حاله. قد تأمره بزواج قريبتها وهو لا يهواها وليست بكفء لحاله، وقد تنهاه عن الزواج لمجرد حرصها على إبقائه في أحضانها، فطاعة الأم، وكذا طاعة الأب -بعد كمال رشد الابن- ليست على الإطلاق.
ومع هذا ينبغي على الابن أن يعمل على إرضائهما، مع المحافظة على ما يصلحه في الدين والدنيا.
ولا يتعارض هذا الرأي مع بر الوالدين، ولا مع توقف الجهاد على إذن الأبوين، لأن الجهاد الذي يتوقف على إذن الوالدين هو فرض الكفاية، والذي يصير غير واجب على من له