(الاستجمار تو، ورمي الجمار تو)"التو" بفتح التاء وتشديد الواو الوتر، والمراد بالاستجمار تجفيف البول والغائط بالحجارة، قال القاضي: وقوله في آخر الحديث: "وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو" ليس للتكرار، بل يقصد بالأول الفعل، وبالثاني عدد الأحجار. اهـ وفي توجيه القاضي نظر، لأنه يتأتى هذا أيضاً في الرمي، فلم لم يكرره والأولى أن يقال: إن التكرير للحث والاهتمام بهذا الأمر خاصة، لأنه قد يتهاون فيه مع تكرره اليومي بخلاف غيره، فالجملة الأولى أريد بها الإخبار، والجملة الثانية طلبية أريد بها الحث والاهتمام.
(رحم الله المحلقين ... والمقصرين) قال النووي: كل هذا كان في حجة الوداع. هذا هو الصحيح المشهور، وحكى القاضي عياض عن بعضهم أن هذا كان يوم الحديبية حين أمرهم بالحلق، فما فعله أحد، لطمعهم بدخول مكة في ذلك الوقت، وذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- قال "حلق رجال يوم الحديبية، وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحم المحلقين (ثلاثاً) قيل: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال: لأنهم لم يشكوا" قال ابن عبد البر: وكونه في الحديبية هو المحفوظ. قال القاضي قد ذكر مسلم في الباب خلاف ما قالوه، وإن كانت أحاديثه جاءت مجملة غير مفسرة، حيث جاء في حديث أم الحصين [روايتنا الخامسة عشرة] أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم دعا في حجة الوداع للمحلقين (ثلاثاً) وللمقصرين (مرة واحدة). ثم قال: ولا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في الموضعين وقال الحافظ ابن حجر: وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في النهاية وقال عياض: كان في الموضعين، وقال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب، قال الحافظ ابن حجر: بل هو المتعين، لتظاهر الروايات بذلك في الموضعين، إلا أن السبب في الموضعين مختلف. اهـ
ولعل السر في تفضيل المحلقين أن العرب كانت تحب توفير الشعر والتزين به، فكان من مناسك الحج التخلي عن هذه الزينة بالحلق الذي يبقى أثره شعاراً لعبادة العمر مدة طويلة. والله أعلم.
و"المقصرين" في سؤالهم معطوف على محذوف، تقديره: قل: رحم الله المحلقين والمقصرين، ويسمى مثل هذا بالعطف التلقيني، كقوله تعالى {إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي}[البقرة: ١٢٤]. و"المقصرين" في جوابه صلى الله عليه وسلم معطوف على محذوف أيضاً، تقديره: رحم الله المحلقين والمقصرين" وقد اختلفت الروايات في دعائه للمقصرين هل دعا للمحلقين ثلاثاً أو أربعاً؟ وللجمع بين هذه الروايات قال الحافظ ابن حجر: وبيان أن كونها في الرابعة أن قوله "والمقصرين" معطوف على مقدر، تقديره: يرحم الله المحلقين، وإنما قال ذلك بعد أن دعا للمحلقين ثلاث مرات صريحاً، فيكون دعاؤه للمقصرين في الرابعة قال: وقد روي بلفظ "قال في الثالثة: والمقصرين" قال: الجمع بينهما أن من قال: في الرابعة فعلى ما شرحناه، ومن قال: في الثالثة أراد أن قوله "والمقصرين" معطوف على الدعوة الثالثة، أو على أنه أراد بالثالثة