للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ظاهره أنه خص أكبر الكبائر بقول الزور، وليس هذا الظاهر مرادا، لأن الشرك أكبر منه بلا شك، وكذا القتل، ثم إن الرواية الأولى تؤذن بأن الثلاثة المذكورات مشتركات في ذلك، فلا بد من تأويله، وفي تأويله ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه محمول على الكفر فإن الكافر شاهد بالزور وعامل به.

الثاني: أنه محمول على المستحل، فيصير بذلك كافرا.

الثالث: أن كلمة "من" مقدرة كما تقدم في نظائره أي ألا أنبئكم بما هو من أكبر الكبائر.

قال النووي: وهذا الثالث هو الظاهر أو الصواب، فأما حمله على الكفر فضعيف، لأن هذا خرج مخرج الزجر عن شهادة الزور في الحقوق، وأما قبح الكفر وكونه أكبر الكبائر فكان معروفا عندهم، ولا يتشكك أحد من أهل القبلة في ذلك، فحمله على الكفر يخرجه من الفائدة.

وإنما اهتم صلى الله عليه وسلم بشهادة الزور فوق اهتمامه بسائر الكبائر لأنها أسهل وقوعا على الناس، والتهاون بها أكثر، ومفسدتها أيسر وقوعا فإن الشرك ينبو عنه المسلم، والعقوق ينبو عنه الطبع، وأما شهادة الزور فإن الحوامل عليها كثيرة، كالعداوة والحسد وغيرها، ومفسدتها متعدية إلى غير الشاهد، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك.

وكان الزور من الكبائر لأنه يتوصل به إلى إتلاف النفس والمال وتحريم الحلال وتحليل الحرام.

وظاهر الأحاديث أنه لا فرق في كون شهادة الزور كبيرة بين أن تكون بحق عظيم أو حقير، حتى لو أتلف بها اليسير، وقال عز الدين: إنما ذلك إذا أتلف بها خطير، وقد يضبط بنصاب السرقة، فإن نقص احتمل أن يكون من الكبائر فطاما عن هذه المفاسد، وسدا للباب.

وقد اختلفت الروايات فيما يلي الشرك من الكبائر، ففي بعضها العقوق، وفي بعضها القتل، وفي بعضها السحر، وقد ذكرت بعض الروايات أمورا لم تذكرها الأخرى.

قال النووي: ووجه الجمع أنه إنما اختلف جوابه صلى الله عليه وسلم في ذلك، لأن جوابه كان بحسب ما الحاجة إلى بيانه حينئذ أمس، أي لكثرة ارتكابه أو خوف مواقعته.

وقال الطحاوي: يضم ما جعل ثاني الشرك في طريق إلى ما جعل ثانيا في الأخرى، ويجعلان في درجة واحدة من الإثم، وكذا ما جعل ثالثا. اهـ.

والتحقيق أن الشيء الواحد قد يختلف في الإثم باختلاف ظروفه وملابساته وما يترتب عليه من مفاسد، فالغيبة بالقذف كبيرة، ولا تساويها الغيبة بقبح الهيئة مثلا، والعقوق بالضرب كبيرة، ولا يساويه العقوق بمخالفة أمرهما في الأكل والشرب مثلا، وقتل النفس الصالحة التي تختل بقتلها أمور المسلمين في المسجد الحرام وفي الأشهر الحرم كبيرة، ولا يساويه قتل نفس فاجرة ترتاح من شرورها كثرة من الآمنين.

<<  <  ج: ص:  >  >>