للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بينهما بأن أسامة وقع في نفسه من ذلك شيء بعد قتله ونوى أن يسأل عنه، فجاء البشير فأخبر به قبل مقدم أسامة، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أيضا بعد قدومهم، فسأل أسامة فذكره، وليس في قوله: "فذكرته" ما يدل على أنه قاله ابتداء قبل تقدم علم النبي صلى الله عليه وسلم به، والله أعلم.

-[فقه الحديث]-

قال ابن رشد: قتل أسامة الرجل ليس من العمد الذي فيه الإثم، ولا من الخطأ الذي فيه الدية والكفارة، وإنما هو عن اجتهاد تبين خطؤه، ففيه لأسامة أجر واحد، ولو أصاب لكان له أجران، وإنما عنفه صلى الله عليه وسلم لتركه الاحتياط، فإن الأحوط عدم قتله، قال: ولا يعترض على هذا بأنه صلى الله عليه وسلم أدى دية الخثعميين الذين قتلهم خالد، وقد اعتصموا بالسجود، ولا بقوله - حين قتل خالد أيضا بني جذيمة وهم يقولون: صبأنا، صبأنا - اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، لأن خالدا اجتهد وأخطأ كأسامة، وإنما أدى النبي صلى الله عليه وسلم الدية تفضلا واستئلافا لغيره، وعنف بذلك القول خالدا بترك الأحوط أيضا، فإن الأحوط أن يقف حتى يعلم ما معنى صبأنا. ومما لا شك فيه أن أسامة اجتهد وتأول، سواء قلنا إنه ظن أن الرجل قالها خوف السلاح فقط كما اعتذر هو بذلك، أو قلنا كما قال الخطابي: لعل أسامة تأول قوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} [غافر: ٨٥]. قال الحافظ ابن حجر: كأنه حمل نفي النفع على عمومه دنيا وأخرى، وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أن في مثل تلك الحالة ينفعه نفعا مقيدا بأنه يجب الكف عنه حتى يختبر أمره، هل قال ذلك خالصا من قلبه؟ أو خشية من القتل؟ وهذا بخلاف ما لو هجم عليه الموت، ووصل خروج الروح إلى الغرغرة وانكشف الغطاء، فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة، وهو المراد من الآية، اهـ.

نقول: لا شك أن أسامة اجتهد وتأول بهذا التأويل أو بذاك، ولهذا التأويل سقط القصاص عنه باتفاق، ولكن البعيد في قول ابن رشد أن تعنيف النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لترك الأحوط، وأنه لا تبعة على أسامة، لا من حيث الدية، ولا من حيث الكفارة، فجمهور العلماء على أن الدية والكفارة لا تسقط في مثل الحالة، لكن هل ألزمه الرسول صلى الله عليه وسلم إياها أو لم يلزمه؟ قال الداودي: لعله ألزمه وسكت الرواة عنه لعلم السامع، أو كان ذلك قبل نزول آية الدية والكفارة.

وقال القرطبي: حقا لا يلزم من السكوت عنه عدم الوقوع لكن فيه بعد، لأن العادة جرت بعدم السكوت عن مثل ذلك إن وقع. ثم قال: فيحتمل أنه لم يجب عليه شيء لأنه كان مأذونا له في أصل القتل فلا يضمن ما أتلف من نفس، أو مال، كالخاتن والطبيب، أو لأن المقتول كان من العدو، ولم يكن له ولي من المسلمين يستحق ديته، قال: وهذا يتمشى مع بعض الآراء، أو لأن أسامة أقر بذلك ولم تقم بذلك بينة، والعاقلة لا تحمل بالاعتراف، ولم يكن عند أسامة مال يدفع منه.

قال: ولم أر من اعتذر عن سقوط الكفارة، فلعلها أيضا لم تكن شرعت، والتأويل وإن أسقط القصاص لم يسقط التوبيخ كما وقع، ولا العقوبة في الآخرة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "كيف

<<  <  ج: ص:  >  >>