للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ولا شك أن المقصود في الحديث هو الأخير، يدل على ذلك رواية البخاري "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا" وروايته "لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء" وروايته "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: يا رسول الله. إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لست ممن يصنعه خيلاء". (وكان أبو بكر رجلا نحيفا لا يكاد يمسك إزاره بوسطه).

ففي هذه الأحاديث دلالة على أن التحريم لإسبال الثوب قاصر على ما إذا كان على وجه الكبر والخيلاء، وأما الإسبال لغير خيلاء فظاهر الروايتين اللتين نحن بصدد شرحهما أنه حرام أيضا، لكن التقييد فيما ذكرت من الأحاديث الصحيحة دل على أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال محمول على المقيد، فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء.

وقد نص الشافعي على الفرق بين الجر للخيلاء ولغير الخيلاء، وقال: والمستحب أن يكون الإزار إلى نصف الساق، والجائز بلا كراهة ما تحت نصف الساق إلى الكعبين، وما نزل عن الكعبين ممنوع منع تحريم إن كان للخيلاء، وإلا فمنع تنزيه، لأن الأحاديث المطلقة الواردة في الزجر عن الإسبال يجب تقييدها بالإسبال للخيلاء. اهـ.

والتحقيق أن جر الثوب لغير الخيلاء مكروه، قال بعضهم: لما فيه من الإسراف، وقال آخرون: لما فيه من التشبه بالنساء (أي المحافظات على تعليم الشرع في الصدر الأول) وقال آخرون: لتعرضه للنجاسة. وقال آخرون: لما فيه من مظنة الخيلاء.

ونقول: إنه مكروه لمجموع هذه العلل.

ولا يخفى أن جر الثوب خيلاء ما هو إلا مظهر من مظاهر الكبر المذموم الذي سبق شرحه قبل ثمانية أحاديث، فليراجع هناك، فإنه لا يخلو من فوائد وزيادات، والله أعلم.

وأما المن ففيه يقول الله تعالى {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: ٢٦٢] ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَاّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ٢٦٤].

فالمن ولو لم يتكرر مبطل للصدقة، محبط لأجر العطية، لما فيه من إيذاء المعطى له وإذلاله، وإشعاره بفضل غيره عليه، وضعته بالنسبة لمن أعطاه، مع أن المنة كلها لله والمعطي هو الله، ولو شاء لجعل المعطي آخذا، والآخذ معطيا.

أما إذا تكرر المن، وكان شأن المعطي كلما أعطى شيئا من به فهو حرام، ومن الكبائر لورود الوعيد الشديد عليه، وكون المنان أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.

<<  <  ج: ص:  >  >>