قال القرطبي: المن غالبا يقع من البخيل والمعجب، فالبخيل تعظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها، والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة وأنه منعم بماله على المعطى وإن كان الآخذ أفضل منه في نفس الأمر، وموجب ذلك كله الجهل ونسيان نعمة الله فيما أنعم به عليه، ولو علم مصيره لعلم أن المنة للآخذ لما له من الفوائد. اهـ.
نعم لو تدبر المنان ما من بعطيته، إذ لولا الآخذ ما تطهر ماله، ولما دفع الله عنه الضر بصدقته، ولما حصل على الثواب الذي يحصل عليه بالعطاء.
وقد روى الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا "ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا".
نعم، لو تدبر المنان ما أحس بالعجب والعظمة، وأنه أفضل من الآخذ، فقد قال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة، لا الآخذة بغير سؤال، إذ محال أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل (أي الأخذ) أن تكون باستعماله دون من فرض عليه إتيان شيء فأتى به، أو تقرب إلى ربه متنفلا، فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل وأورع من الذي يعطي. اهـ.
وأما المنفق سلعته بالحلف الكاذب فقد ارتكب أربع كبائر: الحلف الكاذب، والتغرير بالمسلم، وأخذ المال بغير حق، والاستخفاف بحق الله. وفيه يقول تعالى:{إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران: ٧٧].
وقد أوضحت الروايات بعض صور إنفاق السلعة بالحلف الكاذب فجاء في رواية البخاري "ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطى بها كذا وكذا فصدقه فأخذها، ولم يعط بها" وفي رواية "ورجل ساوم رجلا سلعة بعد العصر فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها" وفي رواية "فحلف له بالله لأخذها (أي لقد أخذها) بكذا، فالبائع سلعته بالحلف الكاذب قد يحلف أنه اشتراها بكذا، وهو على غير ذلك، وقد يحلف أنه عرض عليه ثمنا لها كذا وكذا، وهو على غير ذلك.
والمشتري المروج للسلعة المشتراة بالحلف الكاذب قد يحلف أنه اشترى مثلها بكذا وهو على غير ذلك، وقد يحلف أنه عرض عليه مثلها بكذا وهو على غير ذلك. فكل هذه الصور داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: "والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" وهناك من الأحاديث ما يعم لفظه هذه الصور وغيرها، ففي البخاري "من حلف على يمين صبر (هي التي تلزم ويجبر عليها حالفها) يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" وفي رواية "وهو عنه معرض" وفي رواية "إلا أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة".
فمروج سلعته بالبيع أو الشراء بغير حق مقتطع مال المسلم بغير حق كالمغتصب والسارق، وإن اختلفت طرق الحصول على هذا المال الحرام.
وتخصيص "بعد العصر" في بعض الروايات للتغليظ والتنبيه على زيادة الجرم فهو وقت فضيلة