والنفوس الأبية قبولها لهذا دخلهم من الهم والغم ما دخلهم أما عدم انصياعهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنحر والحلق فلم يكن ردا لأمره صلى الله عليه وسلم ولكنه كان توقفا على أمل أن ينزل وحي يغير الموقف وقد تكرر نحو هذا في قوله تعالى:{إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} إذ نزل بعدها {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}[المجادلة: ١٢، ١٣] قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لجملة "فوالله ما قام منهم رجل" قيل: كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم وسوغ ذلك لهم أنه كان زمن وقوع النسخ ويحتمل أنهم انشغلوا بالفكر لما لحقهم من الذل
عند أنفسهم مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم وليس فيه حجة لمن أثبت أن الأمر للفور ولا لمن نفاه ولا لمن قال: إن الأمر للوجوب لا للندب لما يتطرق القصة من الاحتمال. اهـ.
نعم كان الغيب يحتفظ لهذه النصوص نتائج عظيمة فيها خير كبير للإسلام والمسلمين {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم}[البقرة: ٢١٦].
فشرط رد من جاء منهم وعدم رد من جاءهم -وإن شرح النبي صلى الله عليه وسلم وجهة نظره فيه بقوله "من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا" كانت نتيجته شوكة في ظهر مشركي مكة آلمتهم وأوجعتهم حتى أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنازلون عن هذا الشرط ويرجونه أن يضم إليه من آوى إليه من المسلمين أمثال أبي بصير وأبي جندل وأما شرط الرجوع دون نسك فقد عوض في العام القابل بضعف عدد ما كان في ذلك العام.
قال النووي: قال العلماء والمصلحة المترتبة على هذا الصلح ظهرت من ثمراته الباهرة وفوائدة المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم ودخول الناس في دين الله أفواجا وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تتظاهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي ولا يلتقون بمن يعلمهم بها مفصلة فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة وذهب المسلمون إلى مكة ونزلوا على أهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مفصلة بجزئياتها ومعجزاته الظاهرة وأعلام ثبوته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فبادر خلق كثير إلى الإسلام قبل فتح مكة -ولقد دخل الإسلام في هاتين السنتين أكثر ممن أسلم قبلهما وليس أدل على ذلك من أنهم كانوا في الحديبية ألفا وأربعمائة مسلم وكانوا في فتح مكة عشرة آلاف مسلم وازداد أهل مكة ميلا إلى الإسلام فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما كان قد تمهد لهم من الميل وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون إسلام قريش ليسلموا فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي قال تعالى:{إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا* فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} ولذلك يقول الزهري فيما ذكره ابن إسحق: لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه وروى البخاري عن البراء