الأولى: احتمال أن الحديث إخبار عما سيقع، وخبر الصادق لا يتخلف، وفي هذا الاحتمال احتمالان:
(أ) أنه إخبار عما سيقع فترة من الزمان، والمراد الخلافة الأولى، أو ثلاثون سنة، أو اثنا عشر خليفة يشير إلى هذا الاحتمال رواياتنا الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة.
قال القاضي: وجاء في الحديث "الخلافة بعدي ثلاثين سنة، ثم تكون ملكا" وجمع بينه وبين حديث اثني عشر خليفة بأن المراد في حديث "الخلافة ثلاثون سنة" خلافة النبوة، قال: وقد جاء مفسرا في بعض الروايات "خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا" ولم يشترط هذا في الاثنى عشر، أي لم يشترط خلافة النبوة. قال: والثلاثون سنة لم يكن فيها إلا الخلفاء الراشدون الأربعة، والأشهر التي بويع فيها الحسن بن علي.
وهذا الفريق يؤول ما ورد من الأحاديث مما ظاهره التأبيد، فيقيد المطلق بهذه القيود، ويفسر روايتنا الرابعة "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان" بأن المراد من "الناس" جيل الصحابة الذين كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، وهم المتكلم معهم بهذا الحديث، وكأنه يقول: ما بقي منكم اثنان، كحديث "أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد" يؤيد هذا التأويل أن كلمة الناس هنا لا يقصد بها جميع الخلق، فمن الضروري أن يراد منها جماعة بعينها، كقوله تعالى:{الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}[آل عمران: ١٧٣] والحديث على هذا تطرق إليه الاحتمال، فيسقط به الاستدلال على تأبيد الأمر في قريش.
(ب) الاحتمال الثاني أن الحديث إخبار عما سيقع، مقيدا بما صح من قيود، ففي البخاري "إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين" فإن مفهومه فإذا لم يقيموا الدين لا يكون فيهم، وعند ابن إسحاق في قصة سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر، "فقال أبو بكر: وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله، واستقاموا على أمره" وعند الطبراني والطيالسي والبزار والبخاري في التاريخ عن أنس "ألا إن الأمراء من قريش ما حكموا فعدلوا" وفيه "فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله" وعند أحمد "يا معشر قريش إنكم أهل هذا الأمر، ما لم تحدثوا، فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب" وعند الشافعي والبيهقي "أنه صلى الله عليه وسلم قال لقريش: "أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم على الحق، إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة" وعند الطيالسي والطبراني "استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم، فأبيدوا خضراءهم".
قال الحافظ ابن حجر: فمفهوم حديث "ما أقاموا الدين" أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم، ويؤخذ من هذه الأحاديث [التي سقناها] أن خروجه عنهم إنما يقع بعد إيقاع ما هددوا به من اللعن أولا، وهو الخذلان وفساد التدبير، وقد وقع ذلك في صدر الدولة العباسية، بحيث صاروا مع مواليهم كالصبي المحجور عليه يقتنع بلذاته، ويباشر الأمور غيره، ثم اشتد الخطب، فغلب عليهم