وقال القرطبي: هذا الأمر على جهة الندب، لأنه من باب تشريف اليمين على الشمال، لأنها أقوى في الغالب، وأسبق للأعمال، وأمكن في الأشغال، وهي مشتقة من اليمن، وقد شرف الله أصحاب الجنة، إذ نسبهم إلى اليمين، وعكسه في أصحاب الشمال، قال: وعلى الجملة فاليمين وما نسب إليها وما اشتق منها محمود لغة وشرعاً وديناً، والشمال على نقيض ذلك، وإذا تقرر ذلك فمن الآداب المناسبة لمكارم الأخلاق والسيرة الحسنة عند الفضلاء اختصاص اليمين بالأعمال الشريفة والأحوال النظيفة، وقال أيضاً: كل هذه الأوامر من المحاسن المكملة، والمكارم المستحسنة، والأصل فيما كان من هذا الترغيب والندب. اهـ
وذهب جماعة من العلماء أن الأكل باليمين واجب، نص الشافعي عليه في الرسالة وفي الأم، قال الحافظ ابن حجر: ويدل على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد في الأكل بالشمال، واستدل بالرجل الذي دعا عليه صلى الله عليه وسلم، روايتنا السادسة، ولا يدعى على من ترك مندوباً قال: وثبت النهي عن الأكل بالشمال، وأنه من عمل الشيطان، من حديث ابن عمر ومن حديث جابر عند مسلم -روايتنا الخامسة والرابعة والثالثة- وقد صرح ابن العربي بإثم من أكل بشماله، واحتج بأن كل فعل ينسب إلى الشيطان حرام، ويؤيد القول بالوجوب قوله في الرواية السادسة "ما منعه إلا الكبر" والكبر معصية.
٤ - وأما الأكل مما يلي فقد أمر به في روايتنا السابعة والثامنة، قال النووي: لأن الأكل من موضع يد صاحبه سوء عشرة، وترك مروءة، فقد يتقذره صاحبه، لاسيما في الأمراق وشبهها. اهـ
وقد ترجم البخاري بباب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية، فذكر حديث أنس "أن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته يتبع الدباء من حوالي القصعة" وسيأتي في مسلم هذا الحديث بعد أبواب، تحت باب جواز أكل المرق، واستحباب أكل اليقطين، وإيثار أهل المائدة بعضهم بعضاً، وإن كانوا ضيفاناً، إذا لم يكره ذلك صاحب الطعام.
ومن هنا حمل بعضهم حديث الأمر بالأكل مما يلي على ما إذا لم يعلم رضا صاحبه بتحرك يده، وأجاز بحديث الخياط إذا علم رضا من يأكل معه. قال النووي: والذي ينبغي تعميم النهي، حملاً للنهي على عمومه، حتى يثبت دليل مخصص، ومال إلى حمل حديث الخياط على الخصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما نهي عن ذلك لئلا يتقذره جليسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقذره أحد، بل يتبركون بآثاره صلى الله عليه وسلم، مما هو معروف من عظيم اعتنائهم بآثاره صلى الله عليه وسلم، التي يخالفه فيها غيره. اهـ ومال مالك إلى ما ذهب إليه البخاري فقد نقل ابن بطال عنه قوله: إن المؤاكل لأهله وخدمه يباح له أن يتتبع شهوته حيث رآها، إذا علم أن ذلك لا يكره منه، فإذا علم كراهتهم لذلك لم يأكل إلا مما يليه، وقال أيضاً: إنما جالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطعام لأنه علم أن من معه لا يتكره ذلك منه، ولا يتقذره، بل كانوا يتبركون بريقه ومماسة يده، فكذلك من لم يتقذر من مؤاكلته، يجوز له أن تجول يده في الصحفة. اهـ والنووي يحكي اختلاف العلماء في جواز تحريك الأيدي، وبعدها عما يلي إذا