ثم قال النووي عن روايتنا الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة: في هذه الروايات إباحة العلم من الحرير في الثوب، إذا لم يزد على أربع أصابع، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وعن مالك رواية بمنعه، وعن بعض أصحابه رواية بإباحة العلم، بلا تقدير بأربع أصابع، بل قال: يجوز وإن عظم العلم، وهذان القولان مردودان بهذا الحديث الصريح. اهـ
وقال الحافظ ابن حجر: قال ابن بطال: اختلف في الحرير، فقال قوم: يحرم لبسه في كل الأحوال، حتى على النساء، نقل ذلك عن علي وابن عمر وحذيفة وأبي موسى وابن الزبير، ومن التابعين عن الحسن وابن سيرين.
وقال قوم: يجوز لبسه مطلقاً، وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عن لبسه على من لبسه خيلاء، أو على التنزيه. قال الحافظ: وهذا الثاني ساقط، لثبوت الوعيد على لبسه، ثم قال: واختلف في علة تحريم الحرير على رأيين مشهورين: أحدهما الفخر والخيلاء، والثاني لكونه ثوب رفاهية وزينة، فيليق بزي النساء، دون شهامة الرجال، ويحتمل علة ثالثة، وهي التشبه بالمشركين.
أما مس الحرير من غير لبس فهو مباح، فقد روى البخاري عن البراء رضي الله عنه:"أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فجعلنا نلمسه، ونتعجب منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ قلنا: نعم. قال: مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا" قال ابن بطال: النهي عن لبس الحرير ليس من أجل نجاسة عينه، بل من أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة، فيجوز مسه وبيعه والانتفاع بثمنه.
وقال البخاري: قال عبيدة: افتراش الحرير كلبسه، وساق البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال:"نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه" قال الحافظ ابن حجر: وهذه الرواية حجة قوية، لمن قال بمنع الجلوس على الحرير، وهو قول الجمهور، خلافاً لابن الماجشون والكوفيين وبعض الشافعية، وأجاب بعض الحنفية بأن لفظ "ونهى" ليس صريحاً في التحريم، وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون النهي ورد عن مجموع اللبس والجلوس، لا عن الجلوس بمفرده، وقد يرد على ابن بطال دعواه أن الحديث نص في تحريم الجلوس على الحرير، فإنه ليس بنص، بل هو ظاهر، وقد أخرج ابن وهب في جامعه حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:"لأن أقعد على جمر الغضى -وهو شجر من الأثل، خشبه من أصلب الخشب، وجمره يبقى زماناً طويلاً لا ينطفئ، واحدته غضاة -أحب إلي من أن أقعد على مجلس من حرير"، وأدار بعض الحنفية الجواز والمنع على اللبس، لصحة الأخبار فيه، قالوا: والجلوس ليس بلبس، واحتج الجمهور بحديث أنس "فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس" ولأن لبس كل شيء بحسبه، واستدل به من منع النساء من افتراش الحرير، وهو ضعيف لأن خطاب الذكور لا يتناول المؤنث على الراجح، ولعل الذي قال بالمنع تمسك فيه بالقياس على منع استعمالهن آنية الذهب، مع جواز لبسهن الحلي منه، فكذلك يجوز لبسهن الحرير، ويمنعن من استعماله، وهذا الوجه صححه الرافعي، وصحح النووي الجواز، واستدل به على منع افتراش الرجل الحرير مع امرأته في فراشها، ووجهه المجيز لذلك من المالكية بأن المرأة فراش الرجل، فكما جاز له أن يفترشها وعليها الحلي من الذهب والحرير، فكذلك يجوز له أن يجلس وينام معها على فراشها المباح لها.