للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" وأخرج أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" فهذه الأحاديث يتعارض ظاهرها مع جواز الرقية، وقد أجاب العلماء بأجوبة، منها:

أ- قال النووي: المدح في ترك الرقى، المراد به الرقى التي هي كلام الكفار، والرقى المجهولة، والرقى بغير العربية، والرقى بما لا يعرف معناه، فهذه مذمومة، لاحتمال أن يكون معناها كفراً، أو قريباً من الكفر، أو مكروهاً. اهـ وحاصل الجواب تخصيص لفظ "الرقى" بالمذكورات، أي نهي عن الرقية التي صفتها كذا وكذا، والذين لا يسترقون بالرقى الممنوعة، وإن الرقى بكذا وكذا شرك.

ب- أن النهي لقوم يعتقدون منفعتها وتأثيرها بطبعها، كما كانت الجاهلية تزعمه في أشياء كثيرة، قاله الطبري والمازري وطائفة، وحاصل الجواب تقييد لفظ "الرقى" أيضاً، أي نهي عن الرقية المعتقد فيها أنها تنفع بذاتها، وأجاز الرقى التي يعتمد فيها على الله تعالى، والذين لا يسترقون معتقدين نفعها لذاتها.

ج- قال الداودي وابن قتيبة وطائفة: واختاره ابن عبد البر، المنهي عنه الرقى في الصحة، خشية وقوع الداء، والمرخص به الرقى بعد وقوع الداء، وهو معترض بثبوت الاستعاذة في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه، تفل في كفه، ويقرأ: قل هو الله أحد والمعوذتين، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يده من جسده" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة.

د- قال النووي: كان النهي أولاً، ثم نسخ ذلك، وأذن فيها، وفعلها، واستقر الشرع على الإذن.

هـ- أن المدح في ترك الرقى للأفضلية، وبيان التوكل، والإذن فيها لبيان الجواز، مع أن تركها أفضل، فالأفضل الاعتماد على الله في دفع الداء، والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك، لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة، وثبوته عن السلف الصالح، لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه، قال ابن الأثير: هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلاقتها، وهؤلاء هم خواص الأولياء، ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، فعلاً وأمراً، لأنه كان في أعلى مقامات العرفان، وأعلى درجات التوكل، فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله، لأنه كان كامل التوكل يقيناً، فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئاً، بخلاف غيره، ولو كان كثير التوكل، لكن من ترك الأسباب، وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاماً، قال الطبري: قيل: لا يستحق التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف من شيء ألبتة، حتى السبع الضاري والعدو العادي.

قال الحافظ ابن حجر: والحق أن من وثق بالله، وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطي الأسباب، اتباعاً لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن

<<  <  ج: ص:  >  >>