ولهذا لما كان العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الغاية من البلاغة جاءهم بالقرآن الذي تحداهم أن يأتوا بسورة مثله، فلم يقدروا على ذلك.
وقيل: المراد أن القرآن ليس له مثل، لا صورة ولا حقيقة، بخلاف غيره من المعجزات، فإنها لا تخلو عن مثل، وقيل: المراد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله صورة أو حقيقة، والقرآن لم يؤت أحد قبله مثله، فلهذا أردفه بقوله: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا".
وقيل: المراد أن الذي أوتيته لا يتطرق إليه تخييل، وإنما هو كلام معجز لا يقدر أحد أن يأتي بما يتخيل منه التشبيه به، بخلاف غيره فإنه قد يقع في معجزاتهم ما يقدر الساحر أن يخيل شبهه، فيحتاج من يميز بينهما إلى نظر، والنظر عرضة للخطأ، فقد يخطئ الناظر فيظن تساويهما.
وقيل: المراد أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة وخرقه العادة في أسلوبه، وبلاغته، وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه، قال: وهذا أقوى المحتملات، وتكميله أن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار، كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة، فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا.
ثم قال: ويمكن نظم هذه الأقوال كلها في كلام واحد، فإن محصلها لا ينافي بعضه بعضا. اهـ. وهو كلام نفيس لا مزيد عليه.
وقد جمع بعضهم إعجاز القرآن في أربعة أشياء:
أحدها: حسن تأليفه، والتئام كلمه مع الإيجاز والبلاغة.
ثانيها: صورة سياقه وأسلوبه المخالف لأساليب كلام أهل البلاغة من العرب نظما ونثرا، حتى حارت فيه عقولهم، ولم يهتدوا إلى الإتيان بشيء مثله، مع توفر دواعيهم على تحصيل ذلك، وتقريعه لهم على العجز عنه.
ثالثها: ما اشتمل عليه من الإخبار عما مضى من أحوال الأمم السابقة والشرائع الداثرة، مما كان لا يعلم منه بعضه إلا النادر من أهل الكتاب.
رابعها: الإخبار بما سيأتي من الكوائن التي وقع بعضها في العصر النبوي وبعضها بعده.
ومن غير هذه الأربعة الروعة التي تحصل لسامعه، وأن قارئه لا يمل من ترداده، وسامعه لا يمجه، ولا يزداد بكثرة التكرار إلا طراوة، ومنها جمعه لعلوم ومعارف لا تنقضي عجائبها، ولا تنتهي فوائدها. انتهى ملخصا من كلام القاضي عياض وغيره.
-[ويؤخذ من الحديث]-
١ - أن النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضره من أصر على المعاندة.