يرد هذا الاعتراض، ويرد هذا الاعتراض من أساسه أنه لم يؤثر عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من أعدائه أنه رآه وقد خيل إليه في هذه المدة الطويلة أنه فعل الشيء ولم يفعله، ومثل هذا أمر لا يخفى ولا يكتم ممن يتلمسون له الهفوات، وحيث كان هذا التأثير مكنياً عنه في الحديث، بقولها "يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله" وليس محدداً مصرحاً بالأثر جاز أنها تقصد أمراً لا يضر، وأنه أمر عادي في تغير المزاج، ولهذا اختلف العلماء في تفسيره، سواء كان ناشئاً من تأثير السحر، أو كان مصادفة واتفاقاً مع وقت عمل لبيد ما عمل، فإنه لا يؤثر في الرسالة ولا في التبليغ.
ثانياً: هذا الحديث مضطرب في أحداثه اضطراباً يجعل الجمع بينها عسيراً أو تمحلاً، ففي بعض روايته أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى البئر من يخرج آلة السحر، وفي بعضها أنه صلى الله عليه وسلم أتاها بنفسه ومعه بعض أصحابه، وفي بعضها أن الذي استخرجه جبير بن إياس، وفي بعضها أن الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي، وفي بعض الروايات أن الملكين أتياه في اليقظة، وفي بعضها في المنام، وفي بعضها بين اليقظة والمنام، وفي بعض الروايات قالت عائشة بعد أن استخرج السحر "أفلا استخرجته؟ قال: لا" وفي بعضها "أفلا أحرقته"؟ قال:"لا" أي إنه لم يخرج ولم يحرق.
ثم ماذا حصل مع لبيد بن الأعصم؟ أقتل؟ أم عفي عنه؟ في رواية "فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فاعترف، فعفا عنه"، وفي رواية "فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك اليهودي شيئاً مما صنع، ولا رآه في وجهه" وفي رواية "فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: حب الدنانير" وفي رواية "فقتله" روايات ضعيفة، لا تمثل حقيقة مع أن القتل أو عدم القتل، في مثل هذه الحالة لا يخفى ولا يكتم.
هذا الاضطراب يجعل الاستدلال بعبارة من عباراته محل نظر.
ثالثاً: موضوع السحر، وسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم موضوع عقيدة، وليس موضوع حكم فرعي وليس موضوع وعظ وترغيب وترهيب، وأحاديث الآحاد لا يجب العمل بها في العقائد حتى ولو لم تكن مضطربة.
رابعاً: الاحتمالات الكثيرة في هذا الحديث تجعله غير صالح للاستدلال على تأثير السحر، عملاً بقاعدة: الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
والذي أميل إليه، وأدين الله عليه التوقف بشأن هذا الحديث، أو رده لما ذكرنا من المحاذير. والله أعلم.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
١ - من قوله "دعا .. ثم دعا، ثم دعا" استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهة.
٢ - وتكرير الدعاء.
٣ - وحسن الالتجاء إلى الله تعالى.
٤ - ومن كراهته صلى الله عليه وسلم شراً، ترك المصلحة لخوف مفسدة أعظم منها.