قال النووي: في هذه الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون، ومنع الخروج منه فراراً من ذلك، أما الخروج لعارض فلا بأس به.
قال: وهذا الذي ذكرناه هو مذهبنا ومذهب الجمهور، قال القاضي: وهو قول الأكثرين، قال: حتى قالت عائشة: الفرار منه كالفرار من الزحف، قال: ومنهم من جوز القدوم عليه، والخروج منه فراراً. قال: وروي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنه ندم على رجوعه من سرغ وعن أبي موسى الأشعري ومسروق والأسود بن هلال أنهم فروا من الطاعون، وقال عمرو بن العاص: فروا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورءوس الجبال، فقال معاذ: بل هو شهادة ورحمة.
قال: ويتأول هؤلاء النهي على أنه لم ينه عن الدخول عليه والخروج منه مخافة أن يصيبه غير المقدر، لكن مخافة الفتنة على الناس، لئلا يظنوا أن هلاك القادم إنما حصل بقدومه، وسلامة الفار، إنما كانت بفراره، قالوا: وهو من نحو النهي عن الطيرة والقرب من المجذوم.
قال: وقد جاء عن ابن مسعود أنه قال: الطاعون فتنة على المقيم والفار، أما الفار فيقول: فررت فنجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت، وإنما فر من لم يأت أجله، وأقام من حضر أجله.
قال النووي: والصحيح ما قدمناه من النهي عن القدوم عليه، والفرار منه، لظاهر الأحاديث الصحيحة.
قال العلماء: وهو قريب المعنى من قوله صلى الله عليه وسلم "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا". اهـ
وحكى البغوي في شرح السنة عن قوم أنهم حملوا النهي على التنزيه، فهو مكروه، والقدوم جائز لمن غلب عليه التوكل، والانصراف عنه رخصة، وتمسكوا بما جاء عن عمر أنه ندم على رجوعه من سرغ، كما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر بأنه سمع عمر منفرداً يقول: اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ" قال القرطبي في المفهم: لا يصح هذا عن عمر، قال: وكيف يندم على فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم؟ ويرجع عنه؟ ويستغفر منه؟ .
ومال الحافظ ابن حجر إلى صحة الحديث، ووجهه بأنه يحتمل أن يكون سبب ندمه أنه خرج لأمر مهم من أمور المسلمين، فلما وصل إلى قرب البلد المقصود رجع، مع أنه كان يمكنه أن يقيم بالقرب من البلد المقصود، إلى أن يرتفع الطاعون، فيدخل إليها ويقضي حاجة المسلمين، قال: ويؤيد ذلك أن الطاعون ارتفع عنها عن قرب، فلعله كان بلغه ذلك، فندم على رجوعه إلى المدينة.
ثم قال الحافظ ابن حجر: الخروج من بلد الطاعون بقصد الفرار المحض يتناوله النهي لا محالة، ومن خرج لحاجة متمحضة، لا لقصد الفرار أصلاً فلا يدخل في النهي، ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها، إلى بلد إقامته مثلاً، ولم يكن الطاعون وقع، فاتفق وقوعه أثناء تجهيزه، وأما الخروج لمن عرضت له حاجة، ثم ضم إليها الفرار، فهو محل النزاع.