وقد ذكر العلماء عللاً وحكماً للنهي عن الخروج من بلد الطاعون، منها أن الطاعون في الغالب يكون عاماً في البلد الذي يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن بها، فلا يفيده الفرار، لأن المفسدة إذا تعينت -بحيث لا يقع الانفكاك عنها- كان الفرار عبثاً، فلا يليق بالعاقل، أقول: وهذه العلة غير مسلمة، فلا أحد يقطع بإمكان الانفكاك أو عدم إمكانه.
ومنها أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه -بالمرض المذكور أو بغيره- ضائع المصلحة، لفقد من يتعهده حياً وميتاً. أقول: وهذه العلة غير مسلمة، إذا واجب القادرين على الخروج أن يساعدوا العاجزين ليخرجوهم معهم، كما لو قام حريق في بيت، فالواجب على القادرين أن يحملوا معهم العاجزين ويفروا، ولا يطلب من القادرين البقاء تضامناً مع العاجزين.
ومنها: أنه لو شرع الخروج، فخرج الأقوياء، لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء، وقد قالوا: إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف، لما فيه من كسر قلب من لم يفر، وإدخال الرعب عليه بخذلانه. أقول: وقياس الفرار من الطاعون على الفرار من الزحف غير سليم، فإن من لم يفر من الزحف سيقاتل الأعداء، وقد يغلبهم وينتصر عليهم، فالفرار يضيع هذه الفائدة المرجوة، بخلاف الطاعون.
ومنها: ما ذكره بعض الأطباء أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة، وتألفها، وتصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم، فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم يوافقهم، فمنعوا من الخروج لهذا. أقول: وهذا تعليل لا يقبله العقل، ويستلزم أن المريض في بيئة لا يخرج إلى بيئة أخرى أنظف وأنقى من التي هو بها.
وكأن هذه التعليلات كلها محاولة من جانب أصحابها لأن يستبعدوا أن النهي عن الخروج إنما هو لحماية من هم خارجون عن بلده، من انتقال العدوى إليهم، وأن النهي لمحاصرة الوباء في أضيق حدوده، مع أن هذا هو المعروف في الطب بالحجر الصحي. ولعلهم يخافون اعتقاد تأثير العدوى بنفسها، مع أنها سبب مؤثر ككل الأسباب المؤثرة بقدرة الله تعالى.
-[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]-
١ - قال النووي: ما جاء في هذه الأحاديث من أنه أرسل على بني إسرائيل أو من كان قبلكم عذاباً لهم، يدل هذا الوصف (كونه عذاباً) على أنه مختص بمن كان قبلنا، وأما هذه الأمة فهو لها رحمة وشهادة، ففي الصحيحين "المطعون شهيد" وفي البخاري "أن الطاعون كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، فجعله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابراً، يعلم أن لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد" وفي حديث آخر "الطاعون شهادة لكل مسلم" وإنما يكون شهادة لمن صبر، كما بينه في الحديث المذكور. اهـ وعند أحمد "الطاعون شهادة للمؤمنين، ورحمة لهم، ورجس على الكافر".
وتعقب هذا بأن الطاعون قد يكون عذاباً للعصاة من المؤمنين، ففي حديث ابن عمر عند ابن ماجه والبيهقي "لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم" وفي الموطأ بلفظ "ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم