للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

واستند الطبائعيون والمعتزلة إلى المشاهدة الحسية، ونسبوا من أنكر ذلك إلى إنكار البديهة.

ويرد أهل السنة على هاتين الطائفتين، بأنهما التبس عليهما إدراك الحس بإدراك العقل، فإن المشاهد إنما هو تأثر شيء عند شيء آخر، وهذا حظ الحس، فأما تأثيره فيه، فهو حظ العقل؛ فالحس أدرك وجود شيء عند وجود شيء، وارتفاعه عند ارتفاعه، أما إيجاده به فليس للحس فيه مدخل، ولو كان التأثير لطبيعة المخالطة لم يتخلف عند وجودها، لكن كثيراً ما تقع المخالطة ولا يقع التأثير، ولا ينتقل المرض من الأجرب للسليم.

٤ - وذهب الفريق الرابع إلى تصحيح الحديثين معاً، والأخذ بهما، والجمع بينهما، فقالوا: إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى، فيكون معنى قوله "لا عدوى" أي إلا من الجذام والبرص والجرب مثلاً، فكأنه قال: لا يعدي شيء شيئاً إلا ما بينت أن فيه العدوى حكاه ابن بطال، وذكره القاضي أبو بكر الباقلاني.

٥ - وذهب الفريق الخامس إلى ما ذهب إليه الفريق الرابع، من تصحيح الحديثين معاً، والأخذ بهما، والجمع بينهما، لكنهم قالوا في الجمع: العمل بنفي العدوى أصلاً ورأساً، والأمر بالمجانبة، وعدم ورود الممرض على المصح، والفرار من المجذوم إنما هو حماية للصحيح، وليس من العدوى، وإنما أمر به حسماً للمادة، وسداً للذريعة، لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك، بتقدير الله وإرادته صرفاً، فيظن أنه بسبب المخالطة، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد، وتبعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله "لا يورد ممرض على مصح" إثبات العدوى، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى، ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى، فيفتتن، ويتشكك في ذلك، فأمر بالاجتناب، وأطنب ابن خزيمة في هذا في كتاب التوكل، وعرض أحاديث نفي العدوى، وأحاديث الاجتناب، ثم قال: إنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم، ونهاهم أن يورد الممرض على المصح، شفقة عليهم، وخشية أن يصيب بعض من يخالطه المجذوم الجذام، وأن يصيب الصحيح من الماشية الجرب، فسبق إلى نفس المسلم أن ذلك من العدوى، فيثبت العدوى التي نفاها صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بتجنب ذلك، شفقة منه ورحمة، ليسلموا من التصديق بإثبات العدوى، وبين لهم أنه لا يعدي شيء شيئاً، قال: ويؤيد هذا أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم، ثقة بالله، وتوكلاً عليه وقال الطبري: الصواب عندنا القول بما صح به الخبر، وأن لا عدوى، وأنه لا يصيب نفساً إلا ما كتب عليها، وأما دنو عليل من صحيح فغير موجب لانتقال العلة من المريض إلى الصحيح، إلا أنه لا ينبغي لذي صحة، الدنو من صاحب العاهة، التي يكرهها الناس، لا لتحريم ذلك، بل لخشية أن يظن الصحيح -إذا نزل به ذلك الداء- أنه من جهة دنوه من العليل، فيقع فيما أبطله النبي صلى الله عليه وسلم من العدوى، قال: وليس في أمره صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم

معارضة لأكله معه، لأنه كان يأمر بالأمر على سبيل الإرشاد أحياناً، وعلى سبيل الإباحة أخرى، وإن كان أكثر الأوامر على الإلزام، وإنما كان يفعل ما نهي عنه أحياناً لبيان أن ذلك ليس حراماً.

وقد سلك الطحاوي في معاني الآثار مسلك ابن خزيمة، فيما ذكره، فأورد حديث "لا يورد ممرض على مصح" ثم قال: معناه أن المصح قد يصيبه ذلك المرض، فيقول: لولا أن خالطني المريض ما

<<  <  ج: ص:  >  >>