مرضت، والواقع أنه لو لم يورد عليه الممرض، لأصابه، لكون الله تعالى قدره، فنهي عن إيراده لهذه العلة التي لا يؤمن غالباً من وقوعها في قلب المرء.
٦ - وذهب الفريق السادس إلى ما ذهب إليه الفريق الخامس، من تصحيح الحديثين معاً، والأخذ بهما، والجمع بينهما، ونفي العدوى أصلاً ورأساً، أما الأمر بمجانبة المريض، والفرار من المجذوم، والنهي عن إيراد الممرض على المصح، فليس خوفاً من العدوى، وإنما هو حماية للمصح من التقزر والتأذي من المريض ورائحته وقبح منظره، قال القرطبي في المفهم: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصح، وأمر بالفرار من المجذوم، مخافة تشويش النفوس، وتأثير الأوهام، وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي، لكنا نجد في أنفسنا نفرة وكراهية لمخالطته، حتى لو أكره إنسان نفسه على القرب منه، وعلى مجالسته، لتأذت نفسه بذلك، حينئذ فالأولى للمؤمن أن لا يتعرض إلى ما يحتاج فيه إلى مجاهدة، فيتجنب طرق الأوهام، ويبتعد عن أسباب الآلام، مع أنه يعتقد أنه لا ينجي حذر من قدر. اهـ وقال البيهقي: الجذام والبرص ونحوهما داء مانع للجماع، لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة من هو به، ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به. اهـ وقال ابن قتيبة: المجذوم تشتد رائحته، حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ومضاجعته.
٧ - وذهب الفريق السابع إلى ما ذهب إليه الفريق السادس، لكنه قال: إن الأمر بالفرار من المجذوم، والنهي عن إيراد الممرض على المصح ليس خوفاً من العدوى، وإنما هو حماية للممرض من أن يتأذى بالمصح، فتزداد حسرته ويتعظم مصيبته، حينما يرى النعمة المفقودة عنده موجودة عند غيره، بل إن كثيراً من المرضى يكرهون أن يرى الأصحاء مرضهم، فيتضايقون إذا رأوهم وتزيد حسرتهم على أمراضهم.
وهذا المسلك بعيد، لأنه لو كان مراداً لأمر الأصحاء بعدم القدوم على المرضى حفاظاً على مشاعر المرضى، ولأمر المرضى بالفرار من الأصحاء والبعد عنهم، حماية لأنفسهم.
٨ - وذهب الفريق الثامن إلى حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فالمخاطب بقوله "لا عدوى" من قوي يقينه، وعظم توكله، بحيث لا يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، فيجزم يقينه الداخلي بأنه لا عدوى، ولا قيمة للأسباب. فالله وحده الفعال لما يريد، أما المخاطب بقوله "وفر من المجذوم" فهو من ضعف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل، فهناك مقامان: شديدو التوكل قيل لهم: لا عدوى، وضعافه قيل لهم: فروا. فكأنه قال: أيها المتوكلون ازدادوا توكلاً، فلا عدوى، ويا أيها الضعاف فروا، لئلا تزدادوا ضعفاً في التوكل، فتعتقدوا في العدوى.
قال ابن أبي جمرة: ويمكن الجمع بين فعله (بالأكل مع المجذوم) وقوله "فر من المجذوم" بأن القول هو المشروع من أجل ضعف المخاطبين، وفعله حقيقة الإيمان، فمن فر من المجذوم أصاب السنة، وآثر الحكمة، ومن أكل مع المجذوم وخالطه كان أقوى يقيناً، لأن الأشياء كلها، لا تأثير لها، إلا بمقتضى إرادة الله تعالى وتقديره، كما قال تعالى (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)[البقرة: ١٠٢] فمن كان قوي اليقين فله أن يتابعه