قال المازري: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا. وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان. وهم لا يصدقون بالسمع. فاضطربت أقوالهم: فمن ينتمي إلى الطب ينسب الرؤيا إلى الأخلاط. فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح في الماء ونحوه، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو، وهكذا إلى آخره، ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنفوس. فما حاذى بعض النفوس منها انتقش فيها. قال: وهذا أشد فسادا من الأول. اهـ.
وقال القرطبي: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم، وبيان ذلك: أن الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس، وقد غيب عنا علم حقيقتها -أي النفس- وإذا كان كذلك فالأولى ألا نعلم علم إدراكاتها. بل كثير مما انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنما نعلم منها أمورا جملية لا تفصيلية. اهـ.
وقال أبو بكر بن العربي: الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد، على يدي ملك أو شيطان. إما بأسمائها -أي حقيقتها- وإما بكناها- أي بعبارتها- وإما تخليط. ونظيرها في اليقظة الخواطر فإنها قد تأتي على نسق وفي قصد، وقد تأتي مسترسلة من غير قصد. اهـ.
والتحقيق أن الرؤيا أنواع: منها ما يكون بتلاعب الشيطان. ليحزن الرائي. وفي هذا النوع يقول صلى الله عليه وسلم:"وإذا رأى أحدكم غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان. فليستعذ بالله من شرها. ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره".
ومنها ما يكون نتيجة لإطلاق النفس في النوم نحو رغباتها وآمالها المكبوتة في اليقظة. وفي هذا النوع يقول المثل: حلم الجائع خبز.
ومنها ما يكون نتيجة لامتلاء المعدة، واختلال المزاج، فيرى صورا مفككة وأجزاء متناثرة، ومناظر مبعثرة، لا تجمعها وحدة ولا تربطها رابطة، وخير ما يطلق على هذا النوع أنه أضغاث أحلام.
ومنها الرؤيا الصادقة، يراها الصالح أو ترى له، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم:"الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".
وكون الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة إنما هو باعتبار صدقها لا غير وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا، وليس كذلك. والناس أمام هذا النوع ثلاث درجات، الأنبياء: ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، والصالحون: والأغلب على رؤياهم الصدق وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم: يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث وهم على ثلاثة أقسام: مستورون: فالغالب استواء الحال في حقهم، وفسقة: والغالب على رؤياهم الأضغاث، ويقل فيها الصدق، وكفار: ويندر جدا في رؤياهم الصدق، كما في رؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام.