ويشير إلى هذا التقسيم ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا".
والحديث الذي معنا صريح في أن رؤيا الأنبياء نوع من الوحي، ومن قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: ١٦٣] أخذ المفسرون أن أول أحوال النبيين في الوحي الرؤيا، كما روى أبو نعيم في الدلائل بإسناد حسن، عن علقمة قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، حتى تهدأ قلوبهم، ثم يتنزل الوحي بعد في اليقظة.
ومن أنواع الوحي الإلهام، بأن يقذف الله في قلب نبيه ما يريد من غير واسطة. وليس هذا النوع قاصرا على الأنبياء، فقد أوحي إلى أم موسى أن ترضعه إلخ.
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: ٦٨] الآيات.
ومن أنواع الوحي أيضا التكليم بلا واسطة، كتكليم الله لموسى عليه السلام، وكتكليمه محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.
والمشهور والكثير من أنواعه ما كان بواسطة جبريل عليه السلام، وإن اتخذ مجيئه أشكالا مختلفة، مرة في صورته التي خلقه الله عليها، فيسد ما بين الأفق، ومرة يتقدمه مثل صلصلة الجرس فينزل فيثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ليتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد، فينفصم عنه وقد وعى ما قال، ومرة يتقدمه مثل دوي النحل، ومرة في صورة رجل مجهول، ومرة في صورة دحية الكلبي.
وقد اختلفت الأقوال في حالة جبريل التي جاء عليها في غار حراء بسورة: "اقرأ" فقيل. إنه جاء على صورته الحقيقية، واستند هذا القول إلى رواية عن طريق ابن لهيعة [وهو ضعيف] وفيها "ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، ثم ذكر قصة إقرائه -اقرأ باسم ربك- ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر" وقد مال الحافظ ابن حجر في الفتح إلى هذا الرأي.
وعندي أنه بعيد، إذ لو وقع هذا لكان جديرا بأن يوصف لخديجة ثم لورقة، ولم يرد في أي من الروايات أنه وصفه لأي منهما، فضلا عن أن الغار لا يتسع له بهذه الصورة: اللهم إلا أن يكون كلمه وهو خارج الغار، والذي أميل إليه أن هذا المجيء كان من قبيل سماع الصوت من غير رؤية، وفي هذا النوع تقليل من الانزعاج، وتوثيق بأنه ليس من كلام البشر.
بخلاف ما لو جاء بصورته الحقيقية، أو بصورة البشر، ولا يتنافى هذا الرأي مع الغط فإن الإنسان قد يحس بالشيء ولا يراه.
والحكمة في اختيار "حراء" مقرا للعبادة أن المقيم فيه كان يمكنه رؤية الكعبة. فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاث عبادات: الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت - قاله ابن أبي جمرة.
قال الحافظ ابن حجر: ولم ينازعوا النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء. مع مزيد الفضل فيه على غيره. لأن