جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش، وكانوا يعظمونه لجلالته وكبر سنه فتبعه على ذلك من كان يتأله، فكان صلى الله عليه وسلم يخلو بمكان جده. وسلم له ذلك أعمامه لكرامته عليهم. اهـ.
وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء في كل عام شهرا في السنة يتنسك فيه. وكان هذا الشهر رمضان.
وأما نوع تعبده صلى الله عليه وسلم فقد اختلف فيه. فذهب جماعة إلى أنه كان يتعبد بشرع سابق. ثم اختلفوا في تعيينه على أقوال: شرع آدم. نوح. إبراهيم لقوله تعالى:{أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا}[النحل: ١٢٣](ويقويه ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم). موسى. عيسى أي شريعة وذهب جماعة إلى كل التوقف.
والجمهور على أنه لم يكن يتعبد بشرع سابق. ومستندهم أنه لو وجد لنقل.
أما بماذا كان يتعبد فقد قيل: بما يلقى إليه من أنوار المعرفة، وقيل: بما يحصل له من الرؤيا، وقيل: بالتفكر" وقيل: باجتناب رؤية ما كان يقع من قومه.
فالخلوة بمجردها تعبد، إذ الانعزال عن الناس - ولا سيما من كان على باطل - من جملة العبادة. كما وقع للخليل عليه السلام، حيث قال:{إني ذاهب إلى ربي}[الصافات: ٩٩]. والله أعلم.
وقد أثار هذا الحديث خلافا في بدء بعثته صلى الله عليه وسلم وفي سنه آنذاك. فقيل: إذا علم أنه كان يتنسك في غار حراء في شهر رمضان، وأن ابتداء الوحي جاءه وهو في الغار المذكور اقتضى ذلك أنه نبئ في شهر رمضان، وعلى هذا يكون سنه حينئذ أربعين سنة وستة أشهر. ويعكر عليه قول ابن إسحاق: أنه بعث على رأس الأربعين. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يكون المجيء في الغار كان أولا في شهر رمضان، وحينئذ نبئ وأنزل عليه {اقرأ باسم ربك} ثم كان المجيء الثاني في ربيع الأول بالإنذار حين أنزلت عليه {يا أيها المدثر قم فأنذر}[المدثر: ١] فيحمل قول ابن إسحاق على رأس الأربعين أي عند المجيء بالرسالة. اهـ.
ولست أرى حاجة إلى هذا التأويل بهذا الاحتمال لتصحيح كلام ابن إسحاق. فضلا عن أنهم كثيرا ما كانوا يهملون الكسر، أو يجبرونه، على أنه قيل: إن مدة وحي المنام كانت ستة أشهر وابتدأت في ربيع الأول، فالأمر بالنسبة لقول ابن إسحاق سهل يسير.
والحكمة من الافتتاح بهذه الآيات من سورة "اقرأ" أن هذه الآيات الخمس اشتملت على مقاصد القرآن. ففيها براعة الاستهلال، وهي جديرة أن تسمى عنوان القرآن، لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله.
وبيان كونها اشتملت على مقاصد القرآن، وهي تنحصر في علوم التوحيد والأحكام، والأخبار، وقد اشتملت على الأمر بالقراءة، والبداءة فيها باسم الله، وفي هذه إشارة إلى الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته، من صفة ذات، وصفة فعل،