فهذا يدل دلالة قوية على طول مدة فتور الوحي، مما لا يصدق عليه لفظ "أيام". ولعل مراد ابن عباس في أن مدة الفترة كانت أياما، لعل مراده المدة التي لم ير فيها جبريل بعد أن جاءه بغار حراء، يؤيد هذا ما أخرجه ابن سعد عن ابن عباس ونصه "مكث أياما بعد مجيء الوحي لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء أخرى .. " إلخ. وقد روى البخاري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قول الزهري:"وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم [فيما بلغنا] حزنا عدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل، لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد أنت رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع".
وهذه الرواية تتعارض مع ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الإيمان الكامل، واليقين المطلق الذي لا تزعزعه الكوارث، والذي يستبعد معه التفكير في الانتحار، مهما كانت أسبابه ودواعيه، وقول الإسماعيلي: وأما إرادته إلقاء نفسه من رءوس الجبال بعد ما نبئ فلضعف قوته عن تحمل ما حمله من أعباء النبوة، ولخوفه مما يحصل له من القيام بها، من مباينة الخلق جميعا، كما يطلب الرجل الراحة من غم يناله في العاجل بما يكون فيه زواله عنه، ولو أفضى إلى هلاك نفسه عاجلا.
وقول بعضهم: إن إرادته ذلك كانت حزنا على ما فاته من الأمر الذي بشره به ورقة، هذه الأقوال مما لا تستريح إليها النفس.
والذي أستريح إليه أن هذه الزيادة من رواية معمر، وأن هذا التصور من بلاغات الزهري، وليس موصولا، فلا يثبت به ما يتنافى والطبع السليم، والله أعلم.
وقال الإسماعيلي: إن فتور الوحي من مقدمات تأسيس النبوة ليتدرج فيه، ويمرن عليه، فيتحمل أعباء النبوة، ويصبر على ثقل ما يرد عليه. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: وكان فتور الوحي ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود. اهـ.
والرواية الرابعة تشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم جاور في غار حراء بعد نزول "اقرأ" وقد ورد ذلك صريحا عند البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم كان يجاور في كل سنة شهرا. وهو رمضان، وكان ذلك في مدة فترة الوحي.
وقد فهم بعض العلماء من قول عائشة "قبل أن تفرض الصلاة" أن تطهير الثياب كان مأمورا به من قبل أن تفرض الصلاة. وهو جار على أن المراد من تطهير الثياب غسلها بالماء.
ولا يشكل علينا قوله:"فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي" إلخ. ولا يلزم منه أن تكون هذه الصورة هي الصورة التي رآها في غار حراء، وغاية ما تدل عليه أن الذات واحدة وإن اختلفت صورها، بل قد يلهم الإنسان أن هذه الصورة هي للذات التي كلمته وإن لم يرها [كما يرى النائم صورة النبي صلى الله عليه وسلم] خصوصا إذا لابستها ملابسات تؤكدها، كصوتها والرهبة منها.
وأما ما تقتضيه الرواية الرابعة من أن "المدثر" نزلت قبل "اقرأ" فهو خلاف ما ذهب إليه أكثر