فكأن ابن مسعود نقل الآية من معناها الأصلي وهو الأخذ سرقة من الغنيمة قبل القسمة ونقل التهديد بالوعيد الذي يلحق الغال وهو أن يحمل الغال على رقبته يوم القيامة ما سرق جملا أو بقرة أو شاة تشهيرا به ونكالا نقلها إلى معنى: من يكتم شيئا من الخير جاء يحمله متشرفا به يوم القيامة وفي رواية أنه قال لأصحابه: إني غال مصحفي وحابسه عن أن يحرق فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليغلل.
(ثم قال: على قراءة من؟ تأمرني أن أقرأ) هكذا هو في بعض النسخ "تأمرني" أي أيها الذي تأمرني وفي بعض النسخ "على قراءة من تأمرونني" أي أيها الآمرون والاستفهام إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي أن تأمروني أن أقرأ بقراءة فلان وأترك قراءتي وقصده من "فلان" هذا زيد بن ثابت فقد أثار ابن مسعود أنه لم يحظ بشرف جمع القرآن ونسخه ضمن اللجنة التي ألفها لذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه واعتمد فيها على زيد بن ثابت عز عليه إهماله وهو إمام القراءة في الكوفة، ومن السابقين الماهرين في حفظ القرآن، وهو أول أربعة أمر المسلمون بأخذ القرآن عنهم كما سيأتي في الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة ويقال: إنه خطب في الناس فقال: يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتابة المصاحف، ويتولاها رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب كافر - يريد زيد بن ثابت - ولابن مسعود عذره في هذا الغضب ولعثمان عذره في هذا الاختيار فإبعاده عن هذا العمل المشرف - مع كفاءته له - يغضب دون مراء وفي هذا الغضب جزء لله لكنه جاوز ما يليق! إذ هاجم زيد بن ثابت، من غير ذنب إلا أنه وقع عليه الاختيار، وما كان اختيار زيد إلا عن كفاءة ممتازة، مجمع عليها من المنصفين فهو كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قام بجمع القرآن لأبي بكر، ثم هو أكتب القوم بشهادة الصحابة، فالطعن في اختياره لهذا العمل افتئات واعتداء.
وعذر عثمان في عدم ضم ابن مسعود للجنة أن ابن مسعود كان متميزا بقراءة متمسكا بها فخشي من تحيزه لقراءته على أن عثمان رضي الله عنه كان متعجلا الأمر منزعجا من الاختلاف في القراءة حريصا على الإسراع بحسم الداء وهو بالمدينة وعبد الله بن مسعود بالكوفة فاكتفى بمن هم في المدينة ولم يشتهر عنهم التحيز لقراءة معينة.
وترتب على غضبة ابن مسعود هذه غضبة أخرى، يوم أرسل مصحف عثمان إلى الكوفة ليجمع عليه الناس ويحرقوا ما عداه، فرفض أن يحرق مصحفه ودعا أصحابه إلى ذلك الرفض.
(فلقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة) أي وأخذت بقية القرآن عن أصحابه وفي رواية "لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان".
(قال شقيق: فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه، ولا يعيبه)"شقيق" هو الراوي عن ابن مسعود يحكي أنه جلس في حلقات الصحابة العلمية، فيذكرون ابن مسعود وقوله هذا، فلا يعترض على هذا القول و"الحلق" بفتح الحاء واللام