(فأرسل إلى كعب بن مالك) فقال له: اهجهم، فهجاهم، فكان شأنه شأن ابن رواحة.
(ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه) أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغه ما كان من ابن رواحة وكعب.
(قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه) يصف نفسه بالأسد بين الشعراء، قال العلماء: ومراد حسان من "ذنبه" لسانه، فشبه نفسه بالأسد في انتقامه وبطشه إذا اغتاظ، وحينئذ يضرب بذنبه جنبيه.
(ثم أدلع لسانه، فجعل يحركه) أي ثم أخرج لسانه عن الشفتين، يحركه يمنة ويسرة، كما يفعل الأسد بذنبه، يقال: دلع لسانه، وأدلع لسانه، ودلع اللسان.
(فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم فري الأديم) أي لأمزقن أعراضهم تمزيق الجلد. سأسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين. قال: أنت غير عليم بالأنساب، فيخشى من ذم نسب أتصل به، ولكن عليك أولا بأبي بكر.
(فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا، حتى يلخص لك نسبي) ويخلصه من أنساب تتناولها بالهجاء.
(قالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هجاهم حسان، فشفى، واشتفى) أي فشفى صدري وشفى صدور المؤمنين، وشفى نفسه، وأذهب غيظنا وغيظه.
(قال حسان:
هجوت محمدا، فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء)
يخاطب من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوعده بأنه سيجيب ويدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إجابة ودفاعا لا يدافعه مدافع، لأن أجره عند أعظم مجاز، وأكرم معط.
(هجوت محمدا، برا، تقيا ... رسول الله شيمته الوفاء)
وفي بعض النسخ "برا حنيفا" والبر بفتح الباء واسع الخير، وهو مأخوذ من البر، بكسر الباء، وهو الاتساع في الإحسان، وهو اسم جامع للخير، وقيل: البر هنا بمعنى المتنزه عن المآثم، وأما الحنيف فقيل: هو المستقيم، والأصح أنه المائل إلى الخير، وقيل: الحنيف التابع ملة إبراهيم عليه السلام وقوله "شيمته الوفاء" أي خلقه الوفاء، وكلها منصوبة على الحال.
(فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء)
قال النووي: هذا مما احتج به ابن قتيبة لمذهبه، أن عرض الإنسان هو نفسه، لا أسلافه، لأنه ذكر عرضه وأسلافه بالعطف، وقال غيره: عرض الرجل أموره كلها، التي يحمد بها ويذم من نفسه، وأسلافه، وكل ما لحقه نقص بعيبه، وأما قوله "وقاء" فبكسر الواو، وبالمد، وهو ما وقيت به الشيء.