اليقظة لكان أبلغ في الذكر، فلما لم يقع ذكره في هذا الموضع، مع كون شأنه أعجب، وأمره أغرب من الإسراء بكثير دل على أنه كان مناما.
وأجيب عن الأول باحتمال أنه صلى الله عليه وسلم لما بادءوه بالتكذيب في الإسراء لم يسترسل معهم بذكر المعراج، أو أنه ذكره لهم لكن لم يقع منهم في شأنه اعتراض لأن ذلك عندهم من جنس قوله: إن الملك يأتيه من السماء في أسرع من طرفة عين، وكانوا يعتقدون استحالة ذلك، لكنهم لا يجدون طريقا واضحا لتكذيبه، بخلاف إخباره أنه جاء بيت المقدس في ليلة واحدة، ورجع، فإنهم صرحوا بتكذيبه فيه، وطلبوا منه نعت بيت المقدس، لمعرفتهم به، وعلمهم بأنه ما كان رآه قبل ذلك، فأمكنهم استعلام صدقه في ذلك، بخلاف المعراج.
وعن الثاني بأنه لما كان الإسراء هو مناط التكذيب كان الجدير بالذكر للرد عليهم، وإن كان المعراج أعجب. والله أعلم.
وذهب جماعة إلى أن الإسراء كان في ليلة، والمعراج كان في أخرى اعتمادا على أن بعض الروايات اقتصرت على الإسراء، وبعضها اقتصر على المعراج، وهو مردود ومحمول على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر.
وذهب قوم جمعا بين الروايات إلى أن الإسراء وقع مرتين مرة على انفراد، ومرة مضموما إليه المعراج وكلاهما في اليقظة، وأن المعراج وقع مرتين: مرة في المنام على انفراد، ومرة مضموما إلى الإسراء في اليقظة.
قال الحافظ ابن حجر: إن من المستبعد وقوع التعدد في قصة المعراج التي وقع فيها سؤاله عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب: هل بعث إليه؟ وفرض الصلوات الخمس. وغير ذلك، فإن تعدد ذلك في اليقظة لا يتجه فيتعين رد الروايات المختلفة إلى بعض، أو الترجيح، إلا أنه لا بد في وقوع ذلك في المنام توطئة، ثم وقوعه في اليقظة على وفقه. اهـ.
من أين بدأ الإسراء؟ :
ظاهر الرواية الرابعة والسابعة أنه بدأ من المسجد الحرام، إذ فيهما "وهو نائم في المسجد الحرام" و"بينا أنا عند البيت".
لكن الرواية الخامسة تقول "فرج سقف بيتي، وأنا بمكة، فنزل جبريل" إلخ، وفي رواية الواقدي أنه أسري به من شعب أبي طالب، وعند الطبراني عن أم هانئ أنه بات في بيتها، قالت: ففقدته من الليل، فقال: إن جبريل أتاني ... إلخ.
قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين هذه الأقوال أنه نام في بيت أم هانئ وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته [وأضاف البيت إلى نفسه لكونه كان يسكنه] فنزل منه الملك، فأخرجه من البيت إلى المسجد فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق.