وقد اختلف العلماء في سنة الإسراء والمعراج اختلافا كثيرا، فقيل: كان قبل المبعث، وهو شاذ، إلا إن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام.
وقيل: كان قبل الهجرة بسنة وشهرين، وقيل: بسنة وثلاثة أشهر. وقيل بسنة وخمسة أشهر، وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: كان قبل الهجرة بخمس سنين، وقال ابن سعد وغيره: كان قبل الهجرة بسنة، وبه جزم النووي، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه، قال الحافظ ابن حجر: وادعاء الإجماع مردود بالخلاف السابق. اهـ.
وقد استدل القائلون بأنه كان قبل الهجرة بخمس سنين بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث، أو بخمس، أو نحوهما، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان في ليلة الإسراء.
ورد هذا الاستدلال بأن عائشة جزمت بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة، وبأنهم قد اختلفوا في فرض الصلاة، فقيل كان من أول البعثة، وكان ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، وإنما الذي فرض ليلة الإسراء الصلوات الخمس.
وبناء على هذين الردين يحمل قول عائشة على أن مرادها قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ويحمل القول بأنها ماتت بعد أن فرضت الصلاة، وأنها كانت تصلي معه على الصلاة التي قبل الصلوات الخمس، فيجمع بذلك بين القولين، ويرد ذلك الاستدلال، ويسلم القول بأن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة أو نحوها.
وسر اختيار بيت المقدس غاية للإسراء وبداءة للمعراج علمه عند الله. وما ذكره العلماء في ذلك لا يمثل سرا أو حكمة، ولكنه تلمس واجتهاد لا بأس به، نذكر منه ما قيل من أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، فحصل الإسراء إليه قبل العروج ليحصل العروج مستويا من غير تعويج، ورده الحافظ ابن حجر، وقال: بل كان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور من غير تعويج، لأنه صعد من سماء إلى سماء إلى البيت المعمور، والبيت المعمور حيال الكعبة، فلا يصح أن يكون السر عدم التعويج.
وقيل: الحكمة في ذلك أن يجمع صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة بين رؤية القبلتين، وقيل: لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله فحصل له الرحيل إليه في الجملة، ليجمع بين أشتات الفضائل، وقيل: لأنه محل الحشر، وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية فكان المعراج منه أليق بذلك، وقيل: للتفاؤل بحصول أنواع التقديس له حسا ومعنى، وقيل: ليجتمع بالأنبياء جملة، وقيل: إرادة إظهار الله معاندة من يعارض، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح، فلما ذكر أنه أسري به إلى بيت المقدس، سألوه عن تعريفات جزئيات من بيت المقدس كانوا قد رأوها، وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكره، فكان ذلك زيادة في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد.