وقال بعضهم: إن الأربع المأمور بها أولها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركا بهما لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة، ويستأنس لهذا الرأي برواية البخاري في الأدب بدون الشهادتين، ويضعفه ما جاء هنا في زيادة الرواية الأولى "شهادة أن لا إله إلا الله وعقد واحدة".
ولم يذكر الحج في هذا الحديث لأنه لم يكن فرض بعد، فإن قدوم وفد عبد القيس كان عام الفتح قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ونزلت فريضة الحج سنة تسع على الأشهر. وقيل: إن ترك ذكره لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر، ويرد هذا القول أنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليعمل به عند الإمكان كما في الآية.
ثم إن دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة من أساسها، لأن الحج يقع في الأشهر الحرم، وهم يأمنون فيها.
واختلفت الروايات في عدد وفد عبد القيس، فروي أنه كان أربعين رجلا، وروي أنه كان سبعة عشر، وروي أنه كان أربعة عشر أو ثلاثة عشر، ومع أنه لا طائل وراء تحديد العدد فإن الحافظ ابن حجر جمع بين الروايات بأن مجموع العدد أربعون والأعداد الأخرى تعبير عن رؤساء الوفد أو ركبانه.
وإنما خصت هذه الأربع "الدباء والحنتم والنقير والمقير" بالنهي عن الانتباذ فيها لأنه يسرع إليه الإسكار فيها، فيصير حراما نجسا، ويبطل كونه مالا محترما، فنهي عنه لما فيه من إتلاف المال. ولأن هذه الأوعية تخفي مظاهر التخمر والإسكار في منقوعها فربما شربه بعد إسكاره من لم يطلع عليه، ولم ينه عن الانتباذ في أسقية الأدم، بل أذن فيها لأنها لرقتها لا يخفى فيها المسكر، بل إذا صار مسكرا شقها غالبا.
ثم إن النهي كان في أول الأمر خشية التهاون في التفرقة بين المسكر وغير المسكر واختلاط الأمر، ثم نسخ بحديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في الأسقية، فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا".
وكون النهي منسوخا بهذا الحديث مذهب أبي حنيفة والشافعية.
وذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أن التحريم باق، وفتوى ابن عباس للمرأة في الرواية الثانية والثالثة تدل على أنه يرى عدم النسخ، فقد أجاب عن سؤال الانتباذ في الجر بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ فيها.
واقتصر في المنهيات على الانتباذ في الأوعية مع أن المناهي فيها ما هو أشد في التحريم من الانتباذ لكثرة تعاطيهم لها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي في أجوبته حال المخاطبين كالطبيب يغاير بين الأدوية باختلاف المرضى، وقيل: إنما اقتصر عليها لأنهم طلبوا الجواب فيها، إذ ورد "وسألوه عن الأشربة" وجاء في الرواية الخامسة "يا نبي الله -جعلنا الله فداءك- ماذا يصلح لنا من الأشربة؟ " فاقتصر اقتصار الجواب المطابق للسؤال.