فهذا الحديث وإن كان واردا في الحج في قوله تعالى:{إن الصفا والمروة من شعائر الله}[البقرة: ١٥٨] لكن العبرة بعموم اللفظ، والأمر فيه في رواية النسائي صريح بوجوب الترتيب. وقالوا: إن آية الوضوء وإن كانت مجملة ببنتها السنة بفعله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الآية الكريمة ذكرت ممسوحا بين مغسولات، وتفريق التجانس لا ترتكبه العرب إلا لفائدة وقصد، وهي هنا الوجوب، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن الترتيب غير واجب، لأنه من لفظ الراوي، وقالوا: إن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب وإن داوم عليه صلى الله عليه وسلم، وحديث النسائي إنما قصد به التبرك بالبدء بما بدأ الله به.
قال ابن رشد: وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما الاشتراك الذي في واو العطف وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المرتبة بعضها على بعض، وقد يعطف بها غير المرتبة، وذلك ظاهر من استقراء كلام العرب ولذلك انقسم النحويون فيها قسمين، فقال نحاة البصرة: لا تقتضي نسقا ولا ترتيبا، وإنما تقتضي الجمع فقط وقال الكوفيون: بل تقتضي النسق والترتيب، فمن رأى أن الواو في آية الوضوء تقتضي الترتيب قال بإيجاب الترتيب، ومن رأى أنها لا تقتضي لم يقل بإيجابه.
السبب الثاني: اختلافهم في أفعاله صلى الله عليه وسلم هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب؟ فمن حملها على الوجوب قال بوجوب الترتيب، لأنه لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ قط إلا مرتبا، ومن حملها على الندب قال: إن الترتيب سنة، ومن فرق بين المسنون والمفروض من الأفعال قال: إن الترتيب الواجب إنما ينبغي أن يكون في الأفعال الواجبة، ومن لم يفرق قال: إن الشروط الواجبة قد تكون في الأفعال التي ليست واجبة. اهـ.
ولا يخفى أن القائلين بعدم وجوب الترتيب بين الأركان يقولون باستحبابه بينها كترتيب السنن بعضها مع بعض، والقائلين بوجوبه بين الأركان يقولون بأنه سنة بين السنن.
اللهم إلا ما روي عن أحمد من قوله بوجوبه أيضا بين المضمضة والاستنشاق، لأنهما من تمام غسل الوجه عنده، وأما تقديمهما على غسل الوجه فسنة. والله أعلم.
ولم تتعرض رواياتنا للموالاة التي هي متابعة أعضاء الوضوء، من غير تفرقة بينها، بحيث يغسل العضو الثاني قبل جفاف العضو الأول، مع اعتدال الزمان والمزاج والهواء، ومذهب أحمد أنها واجبة، وبوجوبها قال الشافعي في القديم، وبه قال مالك لكن قيده بالذكر والقدرة، ومذهب أبي حنيفة أنها سنة وهو قول الشافعي في الجديد. والله أعلم.
١٠ - والروايات تصرح بالوضوء ثلاثا ثلاثا.
قال النووي: وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة وعلى أن الثلاث سنة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرة مرة، وثلاثا ثلاثا، وبعض الأعضاء ثلاثا وبعضها مرتين وبعضها مرة. قال العلماء: فاختلافها دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي الكمال، والواحدة تجزئ، فعلى هذا يحمل اختلاف الأحاديث.