الحديث الآخر "الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" فبين له أبو بكر أن الزكاة حق المال، وأن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإبقاء شرائطها. ثم قايس بالصلاة. فقال: أرأيت إذا لم يصلوا؟ وكأن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعا من الصحابة، فرد الزكاة إليها، وبذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه.
فاجتمع في هذه القضية احتجاج من عمر بالعموم، واحتجاج من أبي بكر بالقياس، واستقر عند عمر صحة رأي أبي بكر -رضي الله عنهما- وبان له صوابه، فوافقه على قتال القوم، ومن هذا استدل العلماء على أن العموم يخص بالقياس. والظاهر من اعتراض عمر واستدلال أبي بكر -رضي الله عنهما- أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء في الرواية الثانية لأبي هريرة من قوله "ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا ... " الحديث ولا ما جاء في الرواية الرابعة عن ابن عمر من قوله صلى الله عليه وسلم "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا." الحديث.
فإن عمر رضي الله عنه لو سمع ذلك لما خالف، ولما احتج بالحديث فإنه بهذه الزيادة حجة عليه.
ولو سمع أبو بكر رضي الله عنه هذه الزيادة لاحتج بها ولم يلجأ إلى القياس، فإنها نص في المطلوب.
والقول بأنهما لم يسمعا هذه الزيادة أولى من القول بأنهما سمعاها ثم نسياها، وأولى كذلك من القول بأن أبا بكر كان يحفظها، ولكنه استظهر بهذا الدليل النظري.
وكل ما يرد على أنهما لم يسمعا هذه الزيادة هو: هل تعدد تحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، مرة بالزيادة ومرة بدونها؟ فسمعه ابن عمر وغيره بالزيادة وسمعاه بدونها؟
أو كان التحديث به مرة واحدة في مجلس واحد، وكانا بعيدين فلم يسمعا ما سمع الآخرون؟ الراجح الأول.
٣ - وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم، هل تغنم أموالهم؟ وتسبى ذراريهم كالكفار؟ أو كالبغاة؟ .
فرأى أبو بكر الأول وعمل به، وناظره عمر في ذلك وذهب إلى الثاني، لكنه سلم لأبي بكر في الظاهر، لما يجب عليه من طاعة الإمام، فلما ولي عمر الخلافة عمل بالثاني ورد عليهم السبي، ووافقه المسلمون على ذلك، واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئا من الفرائض بشبهة، فيطالب بالرجوع، فإن نصب القتال قوتل كالباغي، ولم تغنم أمواله، ولم تسب ذراريه، وأقيمت عليه الحجة، فإن رجع فبها ونعمت، وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ.
ويقال: إن "أصبغ" من المالكية استقر على الأول، فعد من ندرة المخالف. قال القاضي عياض: ويستفاد من هذه القصة أن الحاكم إذا أداه اجتهاده في أمر لا نص فيه إلى شيء تجب طاعته فيه، ولو اعتقد بعض المجتهدين خلافه، فإن صار ذلك المجتهد المعتقد خلافه حاكما، وجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده. اهـ.