عند الناس كبير، وإنه من أهل العلم، فنجا الفقيه وسرح مكرمًا، ودخل بعض المرابطين على السلطان أبي حمو في أول أمره فلم يقبل يده ولا بايعه بل سلم وانصرف، فاشتد عليه غضبه فقال: ما له لا يبايعني وهم بشر فقال له أبو عبد اللَّه: هذه عادته مع من تقدم من الملوك وهو من أهل اللَّه فانكسر غضبه وأكرم المرابط وولاه قبيلة كلها، وكان يجلسه الملوك في أرفع المجالس ينصتون له فيقيم الحق، لا يخدمهم بدينه ولا يسألهم حوائج نفسه ولا يخاطبهم إلا بما يسوغ شرعًا، يعظم أهل الحق في قلوبهم ولا ينتصر لنفسه ويدفع حاسده بالتي هي أحسن يلتمس لأولي الفضل في عثراتهم أحسن الوجوه، ويتغافل عن غيره، مع ما له من جميل الذكر وبعد الصيت وعلو المنصب، لا يماري العلماء في مجالس الملوك ولا يرد على أحد ولا يخطئ المفسرين ولا ينصر العامة ولا يجرئهم على المعاصي بل يعظم منصب العلم.
مجلسه مجلس نزاهة ودراية وتحقيق، إذا تكلم في مسألة أوضحها نهاره كله بين إقراء ومطالعة وتلاوة، يقسم الوقت على الطلبة بالرملية ينام ثلث الليل وينظر ثلثه ويصلي ثلثه، يقرأ كل ليلة ثمانية أحزاب في صلاته ومثله في أول النهار ويواظب قراءة الحزب دائمًا، ويقرأ من التفسير نحو ربع حزب كل يوم مع البحث، وإذا طال بحث الطلبة أمرهم بالتقييد في المسألة ثم يفصل بينهم.
يطالع كتبًا كثيرة حدثني بعضهم أنه وجد بين يديه سبعين كتابًا، قوي اليقين بعيد النفس عن الطمع لا يشغله أمر الرزق، ارتاض نفسه للطلب حتى سهل عليه فنال خيرات الدنيا والآخرة، وكان علماء الأندلس أعرف بقدره وأكثرهم تعظيمًا له، حتى إن العالم الشهير لسان الدين ابن الخطيب صاحب الأنباء العجيبة والتآليف البديعة إذا ألّف تأليفًا بعثه إليه وعرضه عليه، وطلب منه أن يكتب عليه بخطه، وكان الشيخ الإمام الصدر المفتي أبو سعيد بن لب شيخ علماء الأندلس كلما أشكل عليه شيء كاتبه ليبين له ما أشكل، مقرًا له بالفضل.
وأما زهده ومروءته ودينه فمعلوم، كان غني النفس بربه ساكن الجاش