كثير النفقة لا يهتم في أمرها حتى ذكره ولده عبد اللَّه أنه بقي بعض الأزمنة ستة أشهر مشتغلًا بالعلم لم ير فيها أولاده لأنه يقوم صبحًا وهم نائمون ويأتي ليلًا وهم نائمون، وذكر أنه لم يأخذ مرتبًا في مدرسته ولا غيرها في زمن طلبه وإنما ينفق من مال أبيه، وربما وضع له طيب الطعام ليفطر به في رمضان وغيره فيشتغل عنه بالنظر حتى لسحوره فيتركهما حتى يصبح ويواصل الصوم بالنظر، مصون العرض منزهًا عن الريب، اتفق العدو والصديق على نزاهة وصدق لهجته، وتساوى في محبته البر والفاجر، مواظبًا على الفكرة، واقفًا مع الحدود، مسلمًا للعبودية كثير الجد في الأمر والنهي، لا تعدل الدنيا عنده شيئًا، يتباعد عن الملوك مع إقبالهم عليه وحرصهم على قربه ورفعته، ما تولى أمرًا من أمور الدنيا بل يقف مع العلم حيث وقف، مع تمكنه، وكان السلطان أبو سعيد يحبه حبًا عظيمًا ويخاطبه بسيدي فلما انحل ملكه عرض عليه مالًا وديعة فامتنع بالكلية فأودعه عند غيره وأشهده، ثم رفع الأمر لأبي عنان بعد ملكه وأخبر به، فوجه فيه وعاتبه شديدًا حين لم يرفع الأمر إليه وأمن عليه بتقريبه ورفعه على العلماء فأجابه، وقال: إنما عندي شهادة لا يجب عليّ رفعها بل سترها، وأما تقريبك إياي فقد ضرّني أكثر مما نفعني ونقص به ديني وعلمي، وشدد القول عليه أي على السلطان فغضب لذلك وسجنه، ثم ورد اثر ذلك يعقوب بن علي شيخ أعراب افريقية على السلطان فسأله عما يقول الناس فيه بافريقية فقال خيرًا، غير أنهم سمعوا بسجنك عالمًا شريفًا كبير القدر فلامك فيه الخاصة والعامة، فأمر بإطلاقه والإحسان إليه بلا تسبب منه ولا معرفة، وهي أعظم محنة امتحن بها، ومازال السلطان يعتذر له عنها حتى مات.
وكان أمينًا مأمونًا حافظًا لسره مالكًا لنفسه مقبلًا على شأنه، يركن إليه أهل الدين والدنيا من القريب والبعيد، وكان قاضي قسنطينة حسن بن باديس وضع عنده أمانة في قرطاس فوضعها في بيته، فلما طلبه صاحبه أخرجها فوجد مكتوبًا على ظاهر القرطاس مائة ذهب، فحله وعدها فإذا خمس وسبعون ذهبًا فزاد فيها خمسة وعشرين فأعطاه له، فمكث عنده يومين فرجع إليه وقال: يا سيدي وجدت في الأمانة زيادة خمس وعشرين فقال: إني لم أعدها عند أخذها