وإذا علم المتأخر من قولي الإمام فلا ينبغي اعتقاد أنهما كأقوال الشارع بحيث يلغى الأول البتة لأن الشارع واضع ورافع لا تابع، فإذا نسخ الأول رفع اعتباره أصلًا وإمام المذهب لا واضع ولا رافع بل هو في اجتهاده طالب حكم الشرع متبع لدليله في اعتقاده، وفي اعتقاده ثانيًا أنه غالط في اجتهاده الأول، ويجوز على نفسه في اجتهاده الثاني من الغلط ما اعتقده في اجتهاده الأول ما لم يرجع لنص قاطع، وكذلك مقلدون يجوزون عليه في كلا اعتقاديه ما جوزه هو على نفسه من غلط ونسيان، فلذلك كان لمقلده اختيار أول قوليه إذا رآه أجرى على قواعده إن كان مجتهدًا في مذهبه، وإن كان مقلدًا صرفًا تعين عليه العمل بآخر قوليه لأغلبية إصابته على الظن، فهذا سر الفرق بين صنفي الاجتهاد وفصل القضية فيهما.
وحاصله أن أقوال الشارع إنشاء وأقوال المجتهد أخبار، وبهذا يظهر غلط من اعتقد من الأصوليين أن حكم القول الثاني من المجتهد حكم الناسخ من قولي الشارع، ويظهر صحة ما ذكره ابن أبي جمرة في "اقليد التقليد" أن المجتهد إذا رجع عن قول أو شك فليس رجوعه عنه مما يبطله، ما لم يرجع لقاطع قال: لأنه رجع من اجتهاد لاجتهاد عند عدم النص فيرجح أصحابه فيأخذ بعضهم بالأول قال: وفي المدونة من ذلك مسائل هذا كلامه، ولم أر من اعترض عليه بأن من أخذ بالقول المرجوع عنه فإن ذلك لقوة مداركه عنده لا أنه قلد مالكًا فيها، كما أشير إليه في السؤال، وإنما لم يصب لأن نظر من أخذ بالقول الأول من أصحابه نظر مفيد بقواعده لا نظر مطلق كالمجتهد، فلذا كان مقلدًا له لتمسكه بأصول مذهبه وقواعده.
وإن خالف نص إمامه ففي العتبية في سماع عيسى فيمن قال لامرأته: أنت طالق إن كلمتني حتى تقولي: أحبك، فقالت: غفر اللَّه لك إني أحبك فقال حانث لقولها: غفر اللَّه لك قبل قولها: أحبك، ولقد اختصمت أنا وابن كنانة لمالك فيمن قال: إن كلمتك حتى تفعلي كذا فأنت طالق، ثم قال لها نسقًا: فاذهبي فقلت: حانث، وقال ابن كنانة: لا يحنث فقضى لي مالك عليه، فمسألتك أبين من هذا وصوّب أصبغ قول ابن كنانة.